مستبدّ وطاغية

ليس الطاغيةُ كالمستبدِّ، وإن كان كلاهما يظلم ويتعالى. فالمستبدُّ منّا، من نسيجِ ما آلت إليهِ ثقافة التَّسلُّط فينا، وثقافةُ البطريركِ الأبويِّ المالكِ أقدارَ الجماعة. وهو حصيلةُ تاريخٍ طويلٍ لمجتمعِ الاستبدادِ، حيث الأبُ هو الربُّ الحاكمُ بالأمرِ، والأسرةُ رعيَّتُه المنصاعةُ له. وهذا التَّاريخ الضَّارب في القِدَم جاء البشريَّةَ بعدما اكتشفتِ المرأةُ الزراعةَ، واخترعتِ الاستقرارَ، وأُنشئت العائلةُ، فانبرى الصَّيَّادُ الرَّعويُّ ذو العضلاتِ فأعلنَ نفسه مالكاً للأرضِ التي زرعتها عشتار، وسيِّداً عليهما. ولم تكن المواجهةُ بينَ الحكمةِ والعقل (عشتار/ المرأة) والعضلات (الصيّاد/ الرَّجل) لتُحسَمَ إلا لصالح الأقوى جسدياً، المالكِ أسلحةَ الدَّمار والفتك.اضافة اعلان
هذه المقدِّمة ضروريَّة للتمعُّنِ في نشأةِ الاستبدادِ، وفي سيرورته الطَّويلة التي آلت إلى ما هي عليه مجتمعاتٌ تُعلي صورةَ الأبِ وتُقدِّسُ سطوتَه. فنظرةٌ في المجتمعات العربيَّة مثلاً ستُفضي إلى أن نتبيَّنَ الاستبدادَ في كلِّ مؤسَّسةٍ من مؤسَّساته؛ الأسرة، والمدرسة، والنّادي، والشَّارع وصولاً إلى الحكومة فأعلى النِّظام، ليس في ذلك أدنى استثناء. ويمكنُ أن نلحظَ أيضاً الشَّراسةَ التي يمكنُ أن يبلغَها الشَّارعُ مثلاً، لا فيما يتَّصل بحقوقِه، بل فيما يتَّصلُ بما يظنُّه من مقدَّساته، أي بتعريفِ التَّغييرِ على أنَّه كفرٌ وزندقة. فعملُ المرأةِ أو سياقة سيّارتها يمكنُ لهذه المجتمعات (بعضها طبعاً) أن تعتبرهما "خروجاً على الثوابتِ في الدين"، فتَستخدمُ الدّينَ أو "قيم المجتمع وعاداته" لإعلانِ سطوتها والوقوفِ في وجه قوى التَّغيير، حتى لو كان منها حاكمٌ متنوِّر.
إذن، فالمستبِدُّ من الحكّامِ هو شخصٌ اجتمعَ فيه وتكثَّفَ استبدادُ مجتمعه الذي هو فيه. بمعنىً آخر، إنَّ المستبدَّ من الحكام لا يسقطُ على مجتمعه بمظلةٍ من كوكبٍ آخر، بل هو من نسيجه الواقعيِّ؛ أكانَ سليماً معافىً، أم رثّاً واهناً!!
ومن صفاتِ المستبدِّ كالأبِ أنَّه متفرِّدٌ في الرَّأيِ والحكمِ، يقرِّرُ عن شعبه/ عائلته ما يراهُ مناسباً لهما، معتقداً أنَّ شعبه/ عائلته لم يبلغا الحلمَ بعد، ولا "النُّضجَ الكافي" لإدارة شؤونهما بنفسهما. ولذلك فأخطاؤه في الحكم كثيرةٌ، لأنه لم يوجِد آليَّةً للمراقبة الذاتية، لأنه لا يؤمنُ بها، ولا يستطيعُ هو نفسه ذلكَ لأنه فردٌ وبعيدٌ عن التفاصيل.. فيكثرُ الظلمُ والتخبيصُ وتنتعشُ الانتهازيَّةُ والنِّفاق، ويعشِّشُ الفساد. ولكنَّ الحاكمَ المستبدَّ –إذا كان مستبداً فقط- ليسَ دموياً ولا قاتلاً محترفاً، فنجدُ فيه قسوةَ الأبِ وإنسانيَّتَه، وتعاليه وحنانه.
أما الطَّاغيةُ فمن طينة الاستبدادِ إذا توحَّشَ وسُعِرَ. أي أنَّه ذاكَ الدَّمويُّ الذي لا يرفُّ له جفنٌ وهو يقتلُ ويُبيدُ الأفرادَ والجماعاتِ من شعبه أو شعوبِ العالم. وهو مركَّبٌ كريهٌ من الصَّلافةِ والتشوُّه النَّفسيِّ والإجرامِ وجنونِ العظمةِ والارتياب. وقد عرفناه في تاريخنا الحديث كأفضلِ ما تكون الأمثلةُ الحيَّةُ، ونالنا منه الأذى والضُّرُّ، وما نزال.
المستبدُّ يُمكنُ أن يُناقشَ، وإذا استحالَ ذلكَ فتمرُّدٌ صغيرٌ في محيطٍ هادرٍ من الثوراتِ قد ينفع، إذا اعتبرَ وفهمَ. أما الطاغيةُ فما من سبيلٍ إلى حواره، ولا إلى التَّفاهمِ معه، لأنَّه جملةً وتفصيلاً لصُّ تاريخٍ، ومفترسُ شعوب، وحيوانٌ خرافيٌّ يقتاتُ على لحومِ البشرِ ومقاديرهم.
دعونا لا نفقد الأمل...