مقاومة قرار ترامب

ما من عربي مشرقي يستطيع أن يكتب مذكراته ويغفل أن يتطرق، ولو في جزء بسيط منها، إلى فلسطين. هي القاسم المشترك بين الجميع، وهي التي وحّدت آمالهم ودموعهم في كثير من الانعطافات الحاسمة التي مرت بها.اضافة اعلان
عاش معنا الصراع قرنا كاملا، اختبرناه على مدى سنوات عمرنا. حين كنا صغارا رأينا بكاء الكبار على ضياع القدس. رأينا دموعهم وهم يودعون المدينة التي يستذكرون كيف ربطوها بمكة في رحلة الحج، فما كان حجهم ليكتمل إن لم يكملوا المسير إليها حاملين الطعام لحمام الحرم القدسي الشريف.
وكبارا؛ شهدنا جميع المفاصل التاريخية التي سحبت البساط من تحت أقدامنا، لتبتعد المدينة عنا تدريجيا، لنواجه خلالها احتمالية أن تذهب منا المدينة مرة وإلى الأبد، خصوصا حين يتم الاستهانة بالمدينة ومكانتها ورمزيتها في الصراع لدى العرب أنفسهم، الذين رأوا أن التضحية بها يمكن أن تؤسس لتحالفات تقود إلى نظام دولي جديد قادر على استيعاب العرب الذي أقصوا أنفسهم من المعادلات العالمية!
كثير من حكايات القدس ما تزال ماثلة في مخيلتنا، رغم شراسة الاحتلال وإطباقه على المدينة مانعا انفتاحها على محيطها العربي، وقاضما أجزاءها، وفارضا واقعا مغايرا على الأرض في طريق تهويدها. ولكن الوجدان رفض نسيان أي شيء، فظلت القدس عروس المدائن، والاسم الذي يمكن أن يوحد العرب حوله، وأن يوحد، أيضا، جميع العالم الذي ما يزال يستخدم ضميره لتبيان العدالة.
كما أي خسارة عربية أخرى، تذهب القدس اليوم "فرق حساب"، فقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالاعتراف بالمدينة عاصمة للاحتلال ونيته نقل السفارة الأميركية إليها، ما كان ليأتي لولا حالة الفوضى التي يعيشها العرب في سنوات ما يسمى "الربيع العربي"، وما كان ليتم لولا أننا أضعنا بوصلة الحقيقة حين اعتبرنا أن عدونا يتمثل في طهران بدلا من تل أبيب، وحشدنا كل التأييد لهذا النوع من قلب الحقائق، بما في ذلك مدنا اليد نحو العدو الحقيقي ليكون شريكا لنا في مستقبل سيظل غائما ما دامت عيوننا لا ترى الطريق الصحيح.
ربما لا يمكن تبرئة إيران من حال الفوضى التي نعيشها اليوم، ولكننا لا بد أن نعتقد جازمين أن المشتركات بينها وبين العرب أكثر بكثير من الاختلافات، وأن الالتقاء معها على المستقبل ممكن إن دخلنا في حوار مباشر يمكن له أن يفضي لمجموعة من التفاهمات حول ما يمكن أن تكون عليه خطوات المقاومة المقبلة.
يحتاج العرب اليوم إلى شركاء حقيقيين لمنح زخم لمعركتهم السياسية والدبلوماسية ضد قرارات ترامب الحمقاء، ونجد أن الرافضين للقرار أكثر بكثير ممن يقبلونه، فالاتحاد الأوروبي وروسيا وكندا والصين وكوريا الشمالية، وغيرها، يقفون في صفنا، وعلينا أن نستفيد من هذا الزخم.
إضافة إلى ذلك، فكل الوسائل متاحة ومباحة للمقاومة، وينبغي علينا أن لا نظل نحمّل السلطة السياسية، وحدها، مسؤولية طرح الحلول، إذ علينا نحن، أيضا، واجب المقاومة، ومن الممكن أن تكون المقاطعة لكل ما هو أميركي خطوة مهمة للضغط باتجاه إخضاع القرار الأميركي للمراجعة. المقاطعة الشعبية سلاح مهم، ويمكن له أن يكون مؤثرا إن نحن التزمنا به.
أخطر ما يمكن أن يحدث، هو أننا حين نعود من مظاهرة أو مسيرة أو وقفة احتجاج، أن نظن حينها أننا قد أدينا الأمانة، وفعلنا كل ما في وسعنا!