ليس أحمد النجداوي أقل من أحد حرصا على مقاومة الاحتلال والدفاع عن بلاد العرب والمسلمين. وفي جميع الأحوال، وأسوأ الاحتمالات، فإنه لا يشكل عقبة أمام الدعوة الإسلامية والجهاد ضد "الصليبية العالمية"، ولم تقترب بالتأكيد حركات "الجهاد" من أهدافها بمقتله، ولا أضرت شيئا بإسرائيل والولايات المتحدة. وكان على أدعياء الجهاد، على الأقل، أن يخجلوا من تبني العملية والتبجح بتنفيذها، طالما أن كل ما أدت إليه هو مقتل شاب بريء يؤدي واجبا مقدسا.
أؤكد أن الشيخ عبدالله عزام بريء من هذه المجموعات، ولو كان على قيد الحياة لكان أول من يتصدى لها. فهو أكثر من يعرف فقه الجهاد وأحكامه، إذ كان فدائيا يقاتل بالطريقة الصحيحة والمنطقية، وعندما تعذرت مواصلة القتال، غادر ساحات القتال التي لم تعد موجودة، ومضى إلى القاهرة يستأنف دراسته ليعود إلى بلده أستاذا جامعيا. وبالمناسبة، فقد كان يدرس في بعثة علمية على حساب الحكومة الأردنية. وأعلم تماما، وكما سمعت بأذني من فمه، أنه كان معارضا ورافضا لعمل "القاعدة" عندما أسسها أسامة بن لادن العام 1986، فقد كانت فكرته في العمل قائمة ببساطة على الوضوح والعلانية، والتعامل مع الهدف المباشر، دون أي مواجهة أو تناقض مع الدول والمؤسسات الأخرى، وضمن الممكنات العملية المتاحة بلا سرية أو مواربة أو غدر وتمويه مع أي جهة كانت، وفي الوقت نفسه دون تبعية أو انتماء لأي دولة أو مؤسسة.
هذا الجنون في القتل الذي يطال أبرياء، ويضر بأمن الناس والبلاد والمصالح العامة، يستدعي الريبة والشك أكثر مما يتطلب الرد والنقاش على الأفكار والدوافع؛ فما الذي طرأ على ساحات العرب والمسلمين حتى تظهر فجأة عمليات عنف تستهدف الناس والأسواق والفنادق؟ وما الذي جعل الحرب على الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل تنتقل إلى مصالح العرب والمسلمين أنفسهم، دون أن تطال أو تضر بالعدو المفترض؟ هل ظهرت النصوص المبررة لهذا النوع من العنف قبل سنوات قليلة، وكانت قبل ذلك تخفى على المسلمين والعلماء والفقهاء، حتى جاء فقهاء العصر ممن أسعفتهم شهاداتهم الابتدائية التي يحملونها لتدل الناس على ما لم يفهمه أبو حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل ومحمد عبده ورشيد رضا وابن باز والألباني، وآلاف مؤلفة من العلماء والفقهاء؟ أم أن الاحتلال والانحراف عن الشريعة وجادة الصواب وقع بالأمس فقط؟
ما الذي يحدث بالفعل؟ هل يمكن القول إن ما يجري هو مجرد فهم متطرف وخاطئ، واستجابة أيديولوجية تيسر لها التمويل والإيواء والتدريب؟ وكيف أتيح لها ذلك، فهل كان غير متاح من قبل؟
في التراث العربي، أن بدويا في الصحراء مر به رجل عابر، فطلب من البدوي أن يتوضأ ويصلي عنده، فقدم له البدوي الماء. وبعد الصلاة دعاه إلى الغداء، فقال له إني صائم، فقال له تبقى عندي الليلة فتفطر وتبيت وتمضي في طريقك غدا صباحا، فوافق الرجل. وفي المساء، قدم له البدوي العشاء والمبيت، لكنه ظل يقظا في فراشه متظاهرا بالنوم، ولم تخب هواجسه، فقد نهض الضيف الصائم في منتصف الليل ليسوق غنم البدوي وإبله، ولكن البدوي تصدى له كمن ينتظر بالفعل مثل هذا السلوك! وعندما سئل كيف عرفت أن الرجل لص؟ فقال: صلى فأراحني، وصام فأرابني، فالبداهة البدوية الفطرية لم تستوعب أن يكون رجل يسير في الصحراء وصائما في غير رمضان. وهكذا، فإن هذا الجهاد غير المنطقي وغير المفهوم لا يمكن أن يكون في التحليل والفهم مجرد تطرف أو تدين مبالغ فيه.