"نصّ نُصْ"!

كلُّ "مسؤول كَبيرٍ" كانَ مَهيباً لا يُتاحُ للناسِ السلام عليْهِ أو رؤيتهُ في مَكانٍ عامٍ. أرقامه بالغَةُ السريَّةِ، بل ربَّما أكثر سريَّةٍ من المَلفِّ النوويِّ للدَّولَةِ التي يَشغَلُ فيها مَنْصِباً "كَبيراً ومَهيباً". هيئته تكونُ قَديمَةً بملامحَ لا خَدْشَ فيها، كما هِيَ في الصورَةِ التي تُنشَرُ مع أخبارِهِ الكثيرة "مُبْتسماً بمَهابَةٍ" لا تَبْعَثُ على الاطمئنان دوماً، وبَيْنَ أصابعِهِ سيجارَةٌ مُسْتَوْرَدَةٌ من دَوْلَةٍ يَشتُمُها شَعْبُهُ بِخَوْفٍ شَديدٍ!اضافة اعلان
وكلُّ "مسؤول كَبيرٍ" كانَ "مُحصَّناً" يَرْتَدي في زياراتِهِ الغامِضَةِ ستْرةً ضدَّ الرَّصاصِ رغم أن الشوارعَ تكونُ خالية عند مروره، ويَقولُ كَلاماً لا يَردُّه عليه نائبٌ فوَّضَتْهُ النَّاسُ الصامِتَةُ بالكَلامِ نيابَةً عَنْها. حسابه الماليُّ تراكميٌّ ربَّما يَكونُ من أرْبَعِ خاناتٍ قبل تسلمه "المنصِبَ"، ثمَّ يَصيرُ رقَماً مُركَّباً مِنْ أصفارٍ تستعصي على العدِّ البسيط، وتفزعُ مَنْ يفكِّرُ في حلمه اللإراديِّ أثناء النوم أنْ يسألَ "المسؤول الكبير الكبير" في مكانٍ شديدِ العُمومِيَّةِ:"من أين لكَ هذا"؟!
إذَنْ كانَ "المسؤول الكبير" كبيراً على كلِّ شيءٍ، وفوقَ كلِّ شيءٍ: يَسألُ ولا يُجيبُ، يأخذُ ولا يُعْطي، تحبُّهُ النساءُ ويطلبُ المزيد منهنَّ، يستقبِلُ كلامَ الودِّ بابتسامَةٍ لا تَردُّ على الكلامِ بمِثْلهِ أو أقلْ، هاتفُهُ يرنُّ دائماً بإلحاحٍ على نغمَةٍ صامتَةٍ، وكفه مرتخيَةٌ في السلام، يفترضُ أنَّ الناسَ كلها ينبَغي أنْ تخدمَهُ خارجَ مكتبه، خصوصاً عندما كانَتْ كلُّ الكائنات محتفِظَةً بأحجامها فـ "الكبير كبير، والنصّ نُصْ.. والصغيَّر".. كائنٌ يمشي ويتظاهرُ، وقد يصرخُ عارياً في الشارع..؛ لكنَّه لا يُرى بالعين المجرَّدة!
يأكُلُ الطعامَ الذي يَصْلُحُ بهئيتِهِ الفائضَةِ غِذاءً لكلِّ الكائناتِ، ويَشْرَبُ الماءَ أو غيره دفعَةً واحدةً، وراء أمْرٍ ما مضغَهُ كفاكهَةٍ لم تنضج بعد، فهو يَسْتَعْجِلُ الوقتَ الذي قد لا يُسْعِفْهُ حتى هضم كلَّ ما تناوله من طعام غربيٍّ، ونساءٍ عابراتٍ، ومالٍ متعدِّدٍ الهَيْئاتِ!
كانَ "المسؤول الكبيرُ" يُؤمنُ كلَّ الإيمانِ أنَّ حَجْمَ الإنسانِ لا يَتَراجَعُ تَماماً مثلَ عُمْرِهِ..؛ وظنَّ كلَّ الظنِّ أنَّهُ سيكْبُرُ أكثرَ، أكثَرَ مِنْ أنْ يَضْطَرَّ للمَشْيِ مِشْواراً واحِداً، على سَبيلِ التَّجرُبَةِ، فوقَ خطِّ الرَّجْعَةِ، فأوغَلَ في الركضِ بلا توقفٍ إلى الأمام حتى انتهى الطَّريقُ سَريعاً!
عادَ "المسؤول الكَبير" كَبيراً إلى البَيْتِ الذي لا يُشبهُ كلَّ بيوتِ الكائِناتِ، ينتظرُ "منصباً مهيباً"، في انعِطافَةٍ أخرى للدَّوْلَةِ التي ستَحْتاجُ إلى خَدماتِهِ يَوْماً قريباً بلا شَكٍّ، وبانتظارِ ذلك تراكَمَ رصيده بهَيْئاتٍ أُخرى للمالِ، وإنْ اضطرَّهُ ذلك لشدِّ كفِّهِ في المُصافَحَةِ، والإجابَةِ بدون سُؤالٍ مُحدَّدٍ، والردّ على المُكالماتِ القليلَةِ بودٍّ كَثيرٍ، على كائناتٍ صارَتْ أكبر من النِّصفِ قليلاً!
كلُّ "مسؤول كَبيرٍ" لم يَعُدِ الآنَ مَهيباً..؛ أَدْرَكَ ذلكَ مُنذُ تزامَنَ خريفُهُ مع "ربيع" الصّغارِ الذينَ صارَ صوتُهُمْ عالياً بلا التِواءٍ، وأيُّ حركة مهما بدت خفيفة في الشارع المزدَحِمِ تُرى بعَيْنٍ رمْداءَ، ويَصيرُ حسابُها نشرَة إخباريَّة مفصَّلَة تستضيفُ مسؤولاً كبيراً ما يعدهم بتحقيق "العدالة" التي لن تستثني كَبيراً مهما كبُرَ أو صَغُرَ!
يَنامُ "المسؤول الكبيرُ" الذي صارَ بحَجْم "نُصِّ نُصْ"، ليلته الأخيرة في البَيْتِ الذي لن يعودَ بيته، وستدخله كلَّ الكائناتِ لتعْبَثَ وتشمَتَ، وتنتهزُ فرصَةَ الظهورِ بلا خوف على "يوتيوب"، ويقِفُ غداً أمامَ المحكمة "العادلة"، عاريا من سترة واقي الرصاص، كلُّ ما يمكله من الحمايَةِ ألا يَموتَ بسكين صغيرَةٍ في الحَبْس تمنعُ إفادته عن مسؤولين ما يزالونَ بكامِلِ حجْمِهِمْ!

[email protected]