شاحنة الموت حطت رحالها أخيرا في مدينة نيس الفرنسية. ملّ الإرهابيون طريقتهم المعهودة في القتل. لم يفجروا الشاحنة هذه المرة. اختاروا طريقا أكثر بشاعة؛ القاتل يستمتع بقتل ضحاياه دهسا؛ أطفالا ونساء وشبانا تجمعوا للاحتفال بالعيد الوطني لبلادهم.
لم تعطِ وسائل الإعلام العربية، خاصة المحطات التلفزيونية، وقتا لمعاينة الجريمة المروعة، ولم تحفل كثيرا بصرخات الضحايا حين كانت عجلات الشاحنة تهرس أجسادهم، ولا أشلاء الأطفال المتناثرة في الشوارع، أو أنين المصابين، وصراخ الأمهات؛ عربيات وفرنسيات بحثن عن أطفالهن. صار كل همنا هو تداعيات الجريمة على الجاليات العربية والإسلامية في فرنسا وأوروبا عموما. ما الثمن الذي سيدفعونه جراء تصاعد خطاب اليمين؟ وماذا سيحل بهم إذا خرجوا إلى شوارع نيس في الغد؟
العنصرية الفرنسية ستفتك بهم. دماء قتلاهم في الساحات العامة ستغدو جريمة متواضعة مقابل جرائم الكراهية والعداء التي ستحط على رأس الجاليات!
وقبل ذلك نجهد في استضافة المحللين والخبراء، ليؤكدوا بالدليل القاطع عدم مسؤوليتنا عن كل تلك الجرائم المروعة. ويتكفل ممثلو الشارع العربي، من معلقين وناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، في تفنيد الأوضاع، وتحميل الغرب المسؤولية عن إرهابنا. لقد قتلوا مليون جزائري قبل نحو خمسين عاما، وحان دورهم الآن؛ يقول معلق عربي على مواقع للتواصل الاجتماعي.
طوال المرحلة السابقة، لم تجرؤ فضائية عربية على السؤال عن دورنا في كل ما يحصل. الجواب دائما جاهز؛ لسنا مسؤولين، وهؤلاء القتلة لا يمثلوننا.
هذا الجواب يتردد على ألسنة المحللين على شاشات التلفزة، لكنه لا يعكس واقع الحال. يكفي أن يخصص أحدكم بعض الوقت لمراجعة التعليقات العربية على أخبار جريمة نيس. الأغلبية الساحقة من تلك التعليقات تمجد القتلة، وتتشفى بالضحايا، وتبتهج بالفعلة الشنيعة، وتطالب بالمزيد. "أجمل هدية للفرنسيين في عيدهم"؛ كان هذا أكثر التعليقات رواجا بالأمس.
الإدانات الرسمية للحادث، والتي تصدر عن حكوماتنا، لا تمثل رأي الأغلبية. وربما ما نسمعه من مثقفي العرب المقيمين في فرنسا والدول الغربية لا يعكس أيضا رأي الجمهور العريض من المهاجرين والجاليات.
أجزم أن ما يخطه الناس بأيديهم على "فيسبوك" و"تويتر" ووسائل التعبير الإلكتروني الأخرى، يعكس واقع الحال. الجمهور العريض يكره الغرب، ويتعاطف مع القتلة. هذه ثقافة ضاربة في الأعماق. ثقافة غزيرة تمد جمهورها بالحجج والبراهين لتبرير تلك الأفعال.
شعوبنا باتت أسيرة لثقافة الموت، ومن حولها شلالات دماء تجعل القتل عملا روتينيا في حياتهم؛ هنا في بلادنا، وهناك في أرض "الكفار".
ليس صعبا أن نجد المبررات لقتل الأوروبيين والأجانب، ما دمنا نوغل بدماء بعضنا بعضا من دون رحمة. من يشرّع تنفيذ هجوم إرهابي في المدينة المنورة، لن تعوزه الأدلة لتبرير العمليات الإرهابية في فرنسا.
الصناعة الوحيدة التي نجيدها اليوم هي القتل. ماذا نقدم للعالم اليوم غير الإرهابيين والقتلة؟ وقبل أن نعترف بهذه الحقيقة المرة، ونقر بمسؤوليتنا عما يحصل لنا وللعالم بسببنا، لن ننجح أبدا في مواجهة حملات العنصرية والكراهية ضدنا. حالة الإنكار لن تفيدنا. العالم سيلفظنا، وسيقرّ بصحة نهج دونالد ترامب وماري لوبان.
عجيب أمر هؤلاء الفرنسيين؛ نقتلهم في باريس ونيس، فيردون علينا بحملات الكراهية وترويع الجاليات!