في كتابه الجدير بالاهتمام "تواطؤ الأضداد" (الصادر عن منشورات الاختلاف/ الدار العربية للعلوم ناشرون 2008)، يقف المفكّر النّابه "علي حرب" موقفاً حازماً من موضوع الحريّة ومطالبها يجعلنا ندرك لمَ نقف بهلعٍ أمام سيل الدّماء والفوضى التي تسيل من جروح الرّبيع العربيّ، ومن خطابه المتأزّم. يقول علي حرب، قبل حواليّ ثلاثة أعوامٍ من اندلاع الشّرارة الأولى لهذا الرّبيع: "... والذي يُحرّك الأفراد، ليس عشق الحريّة، كما ينطق خطاب الحريّة الذي يسكت على سلطته، بل السّعي إلى السّيطرة لاحتلال موقعٍ مميّزٍ على الخارطة الاجتماعيّة. والاعتراف بهذه الحقيقة، أي كوننا نرغب في السّيطرة ونسعى وراء النّفوذ والامتياز، يجعلنا أقدر على صنع حقيقتنا، كما يحدّ من سيطرة بعضنا على البعض الآخر. وأما الغرق في أوهام الحريّة فلم يُنتج سوى المزيد من السّيطرة والتّبعيّة. وإلا كيف نفهم أنّ أكثر الناس ممارسةً للاستبداد، هم أصحاب المشاريع المساواتيّة والتحرّريّة؟؟".
وهذا الموقف الرّاديكاليّ من "مسألة الحريّة" – كما هو عنوان الفصل الذي منه الاقتباس أعلاه– الذي أنضجَه الفكر النّقديّ عند علي حرب يُذكّرنا (وهل نحتاج إلى تذكيرٍ؟) بمقامنا الآن في باحة الهَوْلِ العظيم، حيث يتقاسمنا في الخطاب الرّاهن حزبان (أو هما حَربان!)، يقفان معاً ضدّ أنظمة الاستبداد الحاكمة، وكلاهما "يدّعي وصلاً بليلى" أي القبض على الحقيقة، أوّلهما حزب الرّبيع العربيّ والاحتفاء بانفجاره، والآخر حزب الخوف والتّخوّف من تضحياته (أي الرّبيع) بالمال والأرواح، أي بالاقتصاد وحياة النّاس. وكلاهما ينبثق، بحسب تصوّره وتصوّرنا، عن غرامٍ بالحريّة واحترامٍ للإنسان وقلقٍ على الأوطان، أي كلاهما وطنيّ ونزيهٌ في حبّه بلده.
وإذا ما كان الخطاب الرّاهن، خطاب الحريّة، ينقسم إلى: خطابٍ مندفعٍ متأجّجٍ بالانفعال والشّحن والتّحريض على الثّورة والاستمرار في وقد نارها وبالتّغنّي بالحريّة وبالكرامة الإنسانيّة، وخطابٍ آخر يطرح التمهّل والاستبصار وقراءة الواقع وحقن الدّماء، فإنّه ليظهر لنا (لي على التّحديد) أنّ في الأوّل رومانسيّةً تجعل من موت الناس قتلاً، فرصةً مهولةً لتدبيج الشّتائم للنّظام القاتل، هذه الرومانسيّة التي أراها تعمَى تماماً عن حقيقة معنى الموت قتلاً، والاستمرار في التعرّضِ إليه!! كما أرى في الثّاني خوفاً حقيقيّاً من الموت قتلاً، أي خوفاً من استمرار مسلسل الدّم. ولا يعني كلامي بأيّة حالٍ مناصرة الأنظمة الطّاغية والمسلّحةِ دوماً برخصة مسلخٍ آدميّ. ولكنّ الذي يقلق منامي، حرفيّاً لا مجازاً فحسب، انطواء الخطابين على روح الاستبداد ونفي للرّأي الآخر يصل أحياناً كثيرةً إلى التّخوين وإقذاع الشّتم. ولا أستطيع أن أضع في خانة حريّة الرّأي أو في خانة الوطنيّة وتحت مفهوم النّضال من أجل الحريّة مقالاً أو مقابلةً مرئيةً أو مسموعةً أو مكتوبةً (تهزيئاً) لشخصيّاتٍ كانت طوال عمرها متلألئةً بمعاني الحريّة والوطنيّة والعدالة والصلاحِ السياسيّ، ناهيك عن مساهمتها الفاعلة في بناء الفكر والثقافة العربيّيْن في مواجهة الاستبداد، بعيدةً عن السُّلَط السياسيّة سيّئة السّمعة، أمثال المفكّر فراس السوّاح والمفكّر عزيز العظمة والناقد كمال أبو ديب والشاعر نزيه أبو عفش.
إنّه الفزع إذن من استبطان خطاب الحريّة بخطاب الاستبداد، بل استبدال أحدهما بالآخر! وهو استبدالٌ غير واعٍ بطبيعة الحال (أليس على المثقّف أن يعي ما يقول؟)، ولكنّه ينطوي على قدرٍ كبيرٍ من الاعتداد باحتكار الحقيقة، وتسفيه الآخر وتجريِمه (أي تكفيره وهدر دمه، بحسب تقاليد الحركات الإسلاميّة الحديثة)، وطلي الاستبداد بلونٍ للحريّة موحّدٍ، وواحدٍ أحد!!
أليس ذلك مما يُفزع حقاً؟
دعونا لا نفقد الأمل...
zulauka.abureesheh@alghad.jo
