لا أعرف ما إذا كان قد تم استعمال مصطلح "كيّ الوعي" من قبل، إذ كانت المرة الأولى التي يقع فيها هذا المصطلح الرهيب على مسامعي إبان الانتفاضة الثانية، عندما دعا وزير الحرب الحالي موشيه يعالون، وكان رئيساً لأركان الجيش آنذاك، إلى تفعيل ما سماه "كيّ الوعي الفلسطيني"؛ في إشارة منه إلى ضرورة توجيه ضربات عسكرية ساحقة، تجبر الفلسطينيين على الإقرار بعجزهم عن الانتصار على إسرائيل، أو حتى إكراهها على تقديم تنازلات تحت ضغط العمل المقاوم.
والحق أن تعبير "كي الوعي" هذا قد أصابني بالذهول في حينه، لما ينطوي عليه المعنى من تقديس لوحشية القوة العسكرية المجردة، وإفراط جنوني في استخدام إرهاب الدولة، ناهيك عما يشتمل عليه هذا التعبير من حس بالتفوق العنصري والغطرسة الحربية، وكأني به يدعو إلى التعامل مع الفلسطينيين وفق قواعد العمل مع الضواري التي يتم تعديل غرائزها الفطرية، كي تصبح مطيعة؛ تستجيب لأي إشارة تصدر عن مدربيها بصورة تلقائية.
عاد مصطلح "كيّ الوعي" إلى الذاكرة مؤخراً، على وقع توجيه صواريخ المقاومة نحو تل أبيب، المدينة اليهودية الأولى؛ مركز إسرائيل المالي والتكنولوجي، وحاضنة نخبها العسكرية والسياسية والفكرية. إذ بدا لي استهداف هذه المدينة النيويوركية الموغلة في ثرائها ومجونها، أشد أهمية من ضرب حيفا أو القدس أو ديمونا، نظراً لما يشي به هذا الهدف من أهمية رمزية ومعنوية بالغة الدلالة، أحسب أنها ستظل محفورة في الوعي الإسرائيلي إلى أمد طويل، وحاضرة في العقل الباطن العبري لدى إجراء جدالات داخلية عميقة.
ليس مفيداً المبالغة كثيراً بالأهمية العملانية لهذه الصواريخ التي لم تكسر لوح زجاج، أو تشعل حريقاً في حقل أعشاب جافة في المدينة التي تشكّل جملة إسرائيل العصبية؛ كما أنه ليس من المفيد أيضاً التهوين من مغزى إطلاق صافرات الإنذار تكراراً، ودخول ملايين الإسرائيليين إلى الملاجئ مراراً، لأول مرة في تاريخ هذا الصراع الذي ظلت فيه تل أبيب وكأنها تقع على الشاطئ الشمالي للبحر المتوسط، تتابع سير المعارك من على شاشة التلفزيون ساعة بث نشرات الأخبار المسائية، ثم تمضي إلى سهرها المعتاد في المطاعم الفاخرة والنوادي الليلية.
رغم محدودية النتائج الميدانية المتحققة على الجانب الإسرائيلي، وفداحة الخسائر البشرية والمادية التي لحقت بقطاع غزة طوال نحو أسبوع من هذه الحرب غير المتكافئة، فإن وصول الصواريخ من قطاع غزة المحاصر إلى معظم المدن والمناطق الإسرائيلية، بما في ذلك تل أبيب نفسها، يشكّل مفاجأة كبيرة ترقى إلى مستوى المفاجأة الاستراتيجية، نظراً لشدة الاختلالات في ميزان القوة. كما أنه ينطوي في الوقت ذاته على رسالة لا سابق لها، وهي أن العمق البشري والعمراني الإسرائيلي لم يعد آمناً؛ لا اليوم ولا في المستقبل أيضاً.
بكلام آخر، فإن القوم الذين استضعفهم موشيه يعالون ذات عهد قريب، وعمل على دفعهم نحو حائط اليأس والاستسلام، وكسر روحهم الوطنية بفظاظة، وحملهم على التسليم في قرارة أنفسهم بأنهم أناس بلا حول لهم ولا قوة أمام جبروت ماكينة عسكرية لا رادَّ لها، ها هم اليوم يخرجون من تحت الرماد كطائر الفينيق، ويوجهون لكمة قاسية إلى أنف عدو متغطرس، كان لا يراهم إلا من خلال فوهات البنادق قتلى، أو على الحواجز صاغرين، أو في المعتقلات مكممي الرؤوس مضيّعين.
أخيراً، من المقدر لهذه المجابهة التي أوقفت إسرائيل على قدم واحدة من دون أن تسقطها أرضاً، وزعزعت يقينها بدوام الاحتلال غير المكلف إلى ما لا نهاية، أن تضع نقطة كبيرة في نهاية جملة "كيّ الوعي" الطالعة من نظرية جابوتنسكي حول الحائط الحديدي، وأن ترسي الحجر الأول في معمار "كيّ الوعي الإسرائيلي" في المقابل؛ وذلك لما ستعيد هذه الصواريخ طرحه من أسئلة ملحة، حول مصداقية الردع المتآكل، وهاجس القلق على المصير في واقع متغير، لن تهب رياحه المتكونة في خضم هذا البحر العربي العميق، لصالح أشرعة السفينة الإسرائيلية المبحرة في برزخ مليء بالصخور الناتئة.