‏شيكات على بياض لشن الحرب.. تنازل الكونغرس عن سلطته من تونكين إلى غزة‏

1723023434571026800
فلسطينية بين الأنقاض التي خلفها القصف الإسرائيلي في قطاع غزة - (أرشيفية)

كريستيان جي آبي*‏ - (كاونتربنش) 2024/8/2

مع استمرار المذبحة المدعومة من الولايات المتحدة في غزة وخطر العنف المتزايد الذي يلوح في أفق كل أنحاء المنطقة (في لبنان وإيران ومن يدري أين أيضًا)، نحتاج الآن إلى التفكير بشكل أعمق من أي وقت مضى في الكيفية التي تم بها استبعاد الشعب الأميركي تاريخياً من عملية صنع القرار في السياسة الخارجية.

اضافة اعلان

 

ويجب أن تذكرنا الذكرى السنوية التي تحل هذه الأيام بالعوامل التي دفعتنا إلى هذا الطريق غير الديمقراطي.‏


‏قبل ستين عامًا، في 7 آب (أغسطس) 1964، سلم الكونغرس الرئيس ليندون جونسون سلطة شن حرب كبرى في فيتنام، مؤكدًا بذلك احترامه طويل الأمد للرئاسة بشأن السياسة الخارجية.

 

ولم يمارس الكونغرس حتى لمرة واحدة منذ الحرب العالمية الثانية مسؤوليته الدستورية المتمثلة في التصويت على الإعلانات لتقرير ما إذا كانت الولايات المتحدة ستذهب للحرب، ومتى، وأين.‏


‏ومر "قرار خليج تونكين" للعام 1964 عبر الكونغرس، في ما يرجع جزئياً إلى أن معظم الأعضاء كانوا يثقون في تأكيد الرئيس أنه لا يسعى إلى اندلاع "حرب أوسع". لكن ثقتهم كانت في غير محلها.

 

فقد أبقت إدارة جونسون سراً -وكذبت بشأن- خططها للتصعيد العسكري المستقبلي في فيتنام. كما كذبت بشأن الحادث الذي استخدمته لإقناع الكونغرس بإعطاء الرئيس ليندون جونسون شيكاً على بياض لاستخدام القوة العسكرية كما أراد: الادعاء الكاذب بأن السفن الأميركية كانت أهدافاً لهجمات غير مبررة ولا لبس فيها شنتها زوارق الدورية الفيتنامية الشمالية.‏


‏في الواقع، كانت الولايات المتحدة هي التي تخوض حرباً سرية ضد فيتنام الشمالية منذ العام 1961.

 

وكانت المدمرات الأميركية التي قال ليندون جونسون إنها تبحر ببراءة في "أعالي البحار" تتواجد هناك بهدف دعم الهجمات الفيتنامية الجنوبية (التي نظمها الجيش الأميركي ووكالة المخابرات المركزية) على القرى الساحلية الفيتنامية الشمالية.

 

وفي 2 آب (أغسطس) 1964، استفزت هذه الأعمال الحربية المستمرة أخيراً عدداً قليلاً من زوارق الدورية الفيتنامية لتقوم بمطاردة مدمرة أميركية، التي أطلقت النار أولاً وشلت السفن الصغيرة بسهولة.

 

وقد تمكن الفيتناميون من إطلاق بعض الطوربيدات، لكنهم أخطأوا الهدف. لم تقع أي إصابات أميركية. ولم يكن الحادث "بيرل هاربر" بالضبط.‏


‏بالإضافة إلى ذلك، ادعى البيت الأبيض أيضاً أن لديه أدلة "لا لبس فيها" على أن زوارق الدورية الفيتنامية الشمالية هاجمت مرة أخرى في 4 آب (أغسطس).

 

وفي الواقع، أرسل القائد الأميركي في مكان الحادث "رسالة عاجلة" تحث السلطات المدنية على تأخير اتخاذ أي قرار -لأن ما بدا أول الأمر وكأنه هجوم ربما كان إنذاراً كاذباً ناجماً عن "تأثيرات الطقس الغريبة على الرادار والسونارمين المفرط في الحرص". وفي غضون أيام، كان قد تأكد أنه لم يكن هناك هجوم ثان.

 

وكما قال الرئيس جونسون لأحد مساعديه: "اللعنة، هؤلاء البحارة الأغبياء الحمقى كانوا يطلقون النار على الأسماك الطائرة"!‏


‏مع ذلك، ظهر جونسون على شاشة التلفاز قرب منتصف ليل 4 آب (أغسطس) ليعلن أن من "واجبه" شن غارة جوية "انتقامية". وبينما كان يتحدث، كانت 64 طائرة حربية أميركية في طريقها لقصف فيتنام الشمالية.

 

وفي اليوم التالي، طلب ليندون جونسون من الكونغرس قرارًا يمنحه سلطة "اتخاذ جميع التدابير اللازمة لصد أي هجوم مسلح ضد قوات الولايات المتحدة". ونحن نعرف الآن أن جوهر هذا القرار كان قد صيغ قبل أشهر. وكانت الإدارة تنتظر فقط ذريعة لتمريره في الكونغرس.‏


كما نعرف أيضًا أن الأكاذيب لم تتوقف عند هذا الحد. في ذلك الخريف، بينما كان جونسون يقوم بحملته الرئاسية، بدا مرشح سلام، واعدًا بأنه لن يرسل "أولادنا للاضطلاع بالقتال من أجل الأولاد الآسيويين".

 

وفاز جونسون، الذي كان يترشح ضد المرشح الجمهوري المؤيد للحرب، باري غولدووتر، بأغلبية ساحقة. لقد صوت الأميركيون من أجل السلام، وانتهى بهم المطاف إلى حرب أسفرت عن مقتل أكثر من ثلاثة ملايين فيتنامي ونحو 58.000 أميركي.‏


‏كان كل مسؤول كبير في السياسة الخارجية الأميركية تقريباً يعرف أن إدارة جونسون تكذب بشأن حادثة خليج تونكين، بما في ذلك دانيال إلسبيرغ، البالغ من العمر آنذاك ثلاثة وثلاثين عاماً.

 

وبالصدفة، كان أول يوم عمل كامل لإلسبيرغ كواحد من "الأولاد العباقرة" لبنتاغون روبرت ماكنمارا، هو 4 آب (أغسطس) 1964.

 

وكان إلسبيرغ آنذاك من صقور الحرب الباردة الذين دعموا المهمة الأميركية في فيتنام. ومثل جميع زملائه، لم يثر أي اعتراضات داخلية على الضربات الجوية التي شنها جونسون أو جهود الإدارة لبيع "قرار خليج تونكين" من خلال الخداع. ولم يفكر أي شخص من الداخل لثانية واحدة في الكشف عن تلك الأكاذيب للكونغرس، أو لوسائل الإعلام، أو الجمهور.‏


‏بعد عام في البنتاغون، وما يقرب من عامين في فيتنام، وعامين آخرين في الالتقاء بنشطاء شباب مناهضين للحرب، ودراسة مكثفة للتاريخ السري للغاية المكون من 7.000 صفحة لصنع القرار بشأن فيتنام، الذي أصبح يعرف لاحقاً باسم "أوراق البنتاغون"، خضع إلسبيرغ لتحول سياسي وأخلاقي دراماتيكي.

 

بحلول العام 1967، أصبح يعتقد بأن الحرب هي مأزق لا يمكن الفوز فيه، وأن على الولايات المتحدة أن تجد لنفسها مخرجاً يحفظ ماء الوجه.

 

وبحلول العام 1969، اعتبر تلك الحرب غير أخلاقية وغير عادلة بشكل أساسي، واعتقد أن الولايات المتحدة يجب أن تنسحب منها، من جانب واحد وعلى الفور.‏


‏في تلك المرحلة، قرر إلسبيرغ تصوير أوراق البنتاغون ونشرها على الملأ، على أمل أن يؤدي سجلها الدنيء من الكذب الحكومي إلى زيادة اشتعال النشاط المناهض للحرب. وفعل ذلك مع علمه بأنه قد يؤدي إلى الحكم عليه بالسجن مدى الحياة.

 

وحاول إلسبيرغ أولاً إقناع أعضاء مجلس الشيوخ المناهضين للحرب بوضع "أوراق البنتاغون" قيد الاطلاع العام. وعندما فشل هذا الجهد، أخذ الأوراق إلى صحيفة "‏‏نيويورك تايمز"‏‏ و18 صحيفة أخرى، والتي نشرت كل منها أجزاء كبيرة من الأوراق في حزيران (يونيو) 1971.‏


‏في وقت لاحق من ذلك العام، تحدث إلسبيرغ مع عضو مجلس الشيوخ السابق عن ولاية أوريغون، واين مورس، وهو واحد من عضوَين فقط في الكونغرس صوتا ضد "قرار خليج تونكين".

 

وتحدثا عن الوثائق الواردة في "أوراق البنتاغون" التي احتوت على أدلة مفصلة على أكاذيب إدارة جونسون بشأن حادثة خليج تونكين. و‏‏قال‏‏ مورس لإلسبيرغ، "لو أنك أعطيتني هذه الوثائق، في ذلك الوقت، في العام 1964، لما مرّ قرار خليج تونكين من اللجنة. ولو أنهم طرحوه للمناقشة والتصويت، لكان قد خسِر".‏


بطبيعة الحال، لا يمكنك إعادة عرض التاريخ، ولذلك لا يمكننا اختبار صحة ادعاء مورس، لكن إلسبيرغ قال مرات عدة إن أكبر مصدر للندم في حياته لم يكن عدم فضح أكاذيب الحكومة حول فيتنام في وقت أبكر بكثير. كانت هناك العديد من الأسباب التي تمنعه من ذلك، والسبب في أن قلة قليلة جداً من المسؤولين يمكن أن تفضح مخالفات وأخطاء الأمن القومي. كان السبب الأكبر لندمه، كما أدرك إلسبيرغ لاحقاً، هو الثقافة الكثيفة بشأن السلطة، والولاء، والوصولية التي تميز دوائر السياسة الخارجية.

 

لا أحد تقريباً في هذه المناصب، حتى أولئك الذين لديهم اعتراضات جادة على السياسات الجارية، يكون على استعداد للمخاطرة بوضعه كداخليّ مطلع، ووصوله إلى السلطة، والمعلومات التي يتمتع بامتياز الاطلاع عليها.

 

ويعتنق معظمهم ويطبّع بشكل كامل الافتراض المتغطرس القائل بأن نخبة السياسة الخارجية تفهم أفضل بكثير من الكونغرس أو من الشعب كيف يعمل العالم وكيف يجب على الولايات المتحدة أن تعرض سلطتها فيه.‏


ما يزال الكونغرس يواصل تمكين رئاسة تصبح أكثر إمبريالية بلا توقف، لتقرر متى وأين تذهب الولايات المتحدة إلى الحرب. ويكاد لا يستخدم قط قوة المحفظة التي يمتلكها لتخفيف النزعة العسكريتارية الأميركية أو قطع التمويل عن الحروب التي لا تحظى بالشعبية.

 

ويواصل وضع ختم المصادقة على ميزانية البنتاغون التي تبلغ قيمتها حوالي تريليون دولار كل عام.

 

وليس هناك ما يضمن أن كونغرساً أكثر انخراطا سيمنحنا سياسة خارجية أقل عسكرة وتدخلية، لكنه سيجعل ذلك أكثر عرضة للمساءلة أمام جمهور كان تاريخياً أكثر مناهضة للحرب من ممثليه.

 

 

وكما هو الحال في حقبة فيتنام، عارض غالبية الأميركيين حروب القرن الحادي والعشرين في العراق وأفغانستان قبل سنوات عديدة من انتهائها.

 

ومنذ آذار (مارس) 2024 على الأقل، عارضت ‏‏غالبية‏‏ الأميركيين الحرب التي تشنها الحكومة الإسرائيلية على غزة، ومع ذلك يواصل الكونغرس تمويل الدعم الأميركي لها.‏


لقد شهدنا، في الشهور العشرة الماضية، تدفقاً غير مسبوق للاحتجاجات الأميركية دعماً للحقوق الفلسطينية. ولسبب وجيه. فقد قتل ما لا يقل عن 40.000 من سكان غزة، معظمهم من المدنيين، وكثير منهم من الأطفال، بسبب رد الجيش الإسرائيلي العشوائي وغير المتناسب على قتل حماس نحو 1.200 إسرائيلي في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

 

وبذلك يكون قد قُتل ما لا يقل عن 2 في المائة من سكان غزة (2.14 مليون) وشُرد 75 في المائة على الأقل من منازلهم (اضطر الكثيرون إلى الفرار عدة مرات). وتقدر دراسة حديثة أجرتها المجلة الطبية المعروفة، ‏‏"لانسيت‏‏" The Lancet، أن عدد القتلى في غزة قد يصل إلى 186 ألفًا -حتى لو كان هناك وقف لإطلاق النار اليوم.‏


بالنسبة لمعظم الأميركيين، هذا المستوى من المعاناة لا يمكن تصوره. ومع ذلك يجب أن نحاول أن نتصوره.

 

لو كنا في غزة، لكان 6.5 مليون منا على الأقل قد لقوا حتفهم، غالبيتهم العظمى من النساء والأطفال وغيرهم من المدنيين. وسيكون هناك ملايين آخرون من بين القتلى والمحتضرين الذين لم يتم إحصاؤهم -مدفونون وضائعون ومرضى ويتضورون جوعًا. وسيضطر ما لا يقل عن 240 مليون منا إلى ترك منازلهم، ويكونون على الطريق باحثين عن المأوى والغذاء والماء في ظل هجمات عسكرية مستمرة ومخاطر لا توصف.‏ هذا هو الواقع في غزة.‏


في نهاية المطاف، لا يمكن سوى لحركة ديمقراطية جماهيرية أن تمتلك القدرة على تغيير السياسة الخارجية للولايات المتحدة بشكل يعتد به.

 

والتحدي الأول هو الإطاحة بالادعاء الذي لا أساس له بأن الولايات المتحدة هي أعظم قوة للخير في العالم، "الأمة التي لا غنى عنها" التي تدافع عن سيادة القانون والحرية والديمقراطية. إن سجلنا لا يبرر اعتناق مثل هذا الوهم. فقط عندما يتم تقويض هذه الأيديولوجية وهذا الإيمان الساذج على نطاق عريض، يمكننا أن نأمل في التخلص من البنية التحتية طويلة الأمد للعسكرة الأميركية -750 قاعدة عسكرية على أراض أجنبية، وتدريبات عسكرية سنوية في ثلثي دول العالم، وميزانية "دفاع" تعادل ميزانية الدول التسع التالية الأكثر عسكرة في العالم مجتمعة.‏


‏كان إلسبيرغ ومورس على حق. يجب أن يعرف الناس الحقيقة. لكنّ لدينا منذ فترة طويلة أدلة أكثر من كافية للمطالبة بتغييرات جوهرية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. لا يمكننا انتظار أن يمثلنا الكونغرس بأمانة. ويجب أن يُسمع صوت الشعب.‏

*كريستيان جيرارد آبي Christian Gerard Appy: (5 نيسان/ أبريل 1955)، أستاذ للتاريخ في جامعة ماساتشوستس أمهرست. وهو معروف بأنه خبير رائد في التاريخ الأميركي، ويشتهر بشكل خاص بأعماله حول حرب فيتنام والثقافة الأميركية. حصل على درجة البكالوريوس من كلية أمهرست والدكتوراه من جامعة هارفارد. الأحدث من كتبه الثلاثة حول هذا الموضوع هو "جردة حساب أميركية: حرب فيتنام وهويتنا الوطنية" American Reckoning: The Vietnam War and Our National Identity. ويستكشف الكتاب تأثير الحرب على السياسة والثقافة والسياسة الخارجية الأميركية منذ الخمسينيات حتى رئاسة أوباما.


*نشر هذا المقال تحت عنوان: Blank Checks for War: Congressional Abdication from Tonkin to Gaza

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

الاغتيالات الإسرائيلية لقادة "حماس" قد تشعل صراعا كارثيا