في غفلة من العمر

لا تغيب عنا ذكريات اختبرناها ونحن أطفال صغار. حينها كنا نشعر أن الأيام طويلة بساعاتها التي لا تنتهي، فكان عتبنا شديدا على آبائنا حين يعدوننا برحلة إلى مكان ما بعد يومين أو ثلاثة؛ “نتأفف” ونشعر بالقهر وكأننا سننتظر سنينا.. بل وعلينا أن ننام دهرا حتى يأتي اليوم الموعود.اضافة اعلان
كنا نتساءل: متى ينتهي هذا اليوم ويبدأ فجر يوم جديد؟!
ربما لأننا كنا نريد أن تمر الأيام سريعا، فنشعر بطولها. كان يوم الجمعة بعيدا جدا كأنه يطلّ بعد أعوام. كان تجربة صعبة علينا ما يسمى “الانتظار” ونحن لا ندرك معنى الصبر.
تخطر على بالنا تلك الأيام، نتذكرها الآن وكأنها كانت أجمل الأيام التي عشناها، رغم طولها الحقيقي أو الموهوم.
لكن كانت طفولتنا تمشي على مهل بخطوات كلها براءة وعفوية. والساعة لم تتغير، لم تنقص ولم تزد، لكنها كانت بإحساس آخر لا يشبه أيامنا الآن التي تسير كالبرق في تسارعها.
كنا نرى السنوات بمنظور آخر، فلا تشبه هذه التي نعيشها اليوم؛ قصيرة ولا تكفي لشيء، لا تمهلنا لكي ننجز كل ما نصبو إليه، بل لا تكاد تكفي حتى لنراكم ذكرياتنا مع شخوصها. أيامنا اليوم سريعة بتفاصيلها؛ ضيقة على أحلامنا؛ متسارعة في إيقاعها.. ننظر إلى ما قبل عشر سنوات، فيبدو وكأنه وقع قبل عام لا أكثر! يبدأ الأسبوع وينتهي فجأة.. وتهرب الأيام من بين أصابعنا كالسراب.
نرى من نحبهم يكبرون وتبدو عليهم علامات الزمن واضحة؛ والسنين أخذت منهم الكثير، من دون أن يحققوا بعد بقايا أحلام عالقة. يتحدثون عن أيام جميلة مضت لن تعود، وهم من قبل سنين قليلة كانوا في قمة عطائهم، وأوج إنجازاتهم.
يلحّ على الإنسان العديد من الأسئلة، كلما مرت به سنوات العمر! يتساءل ما الذي حققه، وهل أضاع أجمل سنين عمره بأشياء لم تضف له شيئا؛ ما الذي كان يستحق فعله في مرحلة محددة، لكنه لم يفعله في زمن كان يعتقد انه أبدي لا ينقضي، فأضاع الكثير من الفرص التي ذهبت من دون رجعة.
في غفلة منا زمننا يمر كلحظة.. تمضي الأيام يوما بعد آخر، عاما بعد عام، وعقدا تلو عقد. فنكبر سريعا، وتكثر في دواخلنا أمنيات الرجوع إلى الماضي؛ لتفاصيله، لأحداثه، للحظات لن تتكرر أو تعود. ويستذكر أناس بيننا تلك “الغفلة” التي سرقت حياتهم، بعد أن أفنوا أعمارهم للآخرين.. لم يعيشوا لأنفسهم، فتساقطت منهم السنين!
يا تُرى، كم من الوقت يلزمنا لندرك أن العيش بين أغلال سنين مضت وضاعت من حيث لا ندري، يزيد من حسرتنا؟! مؤلمة تلك الحقيقة، لكن لن يفيدنا إنكارها بشيء سوى مزيد من الألم.
ليست نظرة تشاؤمية، إنما إحساس حقيقي واقعي نختبره كل يوم، ونحن نرى سنواتنا تُختطف منا إلى غير رجعة. حياة ربما تأتينا متأخرة، لكن لا نقوى أن نعيشها لأنها تجاوزت حدود زمنها، كما غادرها شغف لا نعلم متى يضيء شعلته مرة أخرى.
لكن لربما في ذلك جرس إنذار، بأن لا نؤجل شيئا ما واهمين أنه ما يزال أمامنا الكثير من الوقت لنحققه أو نستمتع به، فمفاتيح الزمن والحياة ليست ملك أيدينا نتحكم بها متى وكيفما نشاء.
هي الحياة قصيرة.. فدعونا نعش كل يوم فيها وكأنه اليوم الأخير؛ نعيشه لأنفسنا.. ونستمتع بالتفاصيل الأجمل من وقتنا، نسعى لنحقق ما نبتغيه ولا نؤجله للغد الذي لا نعلم شيئا عن شكله أو ملامحه.
كثيرة هي آمالنا التي نخاف أن نفقدها في رحلتنا على قطار العمر وبين محطاته القصيرة، لكننا لا نملك إلا الإصرار على الحياة والإنجاز.