الاقتصاد الوطني واجه وما يزال يواجه، في ظل الحكومات المتعاقبة، أنواعا مختلفة من المعضلات قوضت نهضته في الكثير من المجالات، لا سيما الاستثمار الذي تجرع أحد أنواع تلك المعضلات، وهو البيروقراطية.
عقود خلت شهدت عقبات متنوعة في ملف الاستثمار من تعقيد بالإجراءات وتعدد المرجعيات وغموض القوانين والتعليمات الناظمة، ما انعكس سلبا على النشاط الاقتصادي العام والاستثماري بشكل خاص، ما يؤكد الحاجة الملحة إلى مواجهة هذه العقبات لتمكين الاقتصاد الوطني وتشجيع الاستثمارات.
منتدى الاستراتيجيات، كشف في ورقة سياسات حول واقع الاستثمار الأجنبي في الأردن، أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في الأردن قد اتخذت مسارا تنازليا خلال الفترة (2018-2021) على الرغم من التحسن خلال العام الماضي؛ حيث بلغ حجم التدفقات خلال هذه الفترة نحو 3 مليارات دينار فقط، وبحسب المنتدى، فإن نسبة تدفق الاستثمارات الأجنبية في الأردن إلى الناتج المحلي الإجمالي خلال هذه الفترة بلغ 1.7 % فقط، ولم يتجاوز 2.3 % خلال العام الماضي.
ويشار إلى ذروة الاستثمار الأجنبي في الأردن بلغت ملياري دينار في العام 2008.
وأكد خبراء اقتصاديون لـ"الغد"، أن منسوب البيروقراطية في الأردن تفاقم خلال العقود الأخيرة بشكل واضح وبشكل متوارث بين الحكومات؛ حيث أخفقت تلك الحكومات في وضع قوانين وتشريعات قادرة على معالجة الاختلالات التي تعاني منها القطاعات الاقتصادية، وخصوصا بما يتعلق بالاستثمار، إضافة إلى استئثارها بالقرارات وتهميش الإدارات الصغرى، ما جعلها مضطرة دائما للعودة إلى الإدارات العليا، واحتمائها بالبيروقراطية.
وبين الخبراء أن البيروقراطية والترهل الإداري كان لهما تأثير سلبي واضح على الاقتصاد الوطني خلال الفترة الماضية، تمثل في تراجع حجم التدفقات الاستثمارية في الأردن، إضافة إلى ضعف الكفاءة الاقتصادية للقطاعات الاقتصادية المختلفة.
وبقصد الحد من المد البيروقراطي في المملكة، طالب الخبراء بضرورة إعادة النظر في القطاع العام وتنظيمه وتمكين الإداريين من اتخاذ القرار، إضافة إلى تقليل تدخل القطاع العام في النشاط الاقتصادي ومنح صلاحيات ودور أكبر للقطاع الخاص، فضلا عن أهمية تنفيذ مراجعة حقيقية للأنظمة والقوانين والسياسات والإجراءات المعيقة للإنجاز والمكرسة للبيروقراطية وتسريع التحول إلى أتمتة الخدمات.
ويشار إلى أن الحكومة قد أطلقت، خلال العام الماضي، رؤية لتحديث القطاع العام، تهدف إلى بناء قطاع عام ممكن ويعيد الألق والتميز للإدارة العامة، إضافة إلى تحسين الخدمات المقدمة للمواطنين ورفع كفاءة الإدارة العامة.
وتعرض مفهوم البيروقراطية، خلال العقود الماضية، إلى تغيير كبير؛ إذ بات يعبر عن حالة الترهل الإداري وضعف أداء القطاع العام، والتمسك الحرفي باللوائح والنصوص والتردد في اتخاذ القرارات، بدلا من مفهومه الحقيقي الذي يقصد به الأنظمة والأساليب المتبعة من قبل المؤسسات الكبيرة والحكومات لتنفيذ أعمالها.
وقال وزير تطوير القطاع العام السابق ماهر المدادحة "إن البيروقراطية من أمراض الإدارة الاقتصادية التي تؤثر على نواحي النشاط الاقتصادي كافة؛ حيث تتمثل بصعوبة الإجراءات الحكومية وتعدد الجهات المنفذة لها، إضافة إلى الاشتراطات الكثيرة لممارسة الأعمال"، مؤكدا أن تضخم البيروقراطية وامتدادها يشكل عقبة رئيسية أمام تحقيق الكفاءة الاقتصادية، ما يرتب آثارا سلبية على تنافسية القطاعات الاقتصادية.
ولفت المدادحة إلى أن منسوب البيروقراطية في المملكة تفاقم بشكل واضح، خلال العقود الأخيرة، نتيجة فشل الحكومات المتعاقبة في النهوض بالقطاع العام والأداء الإداري.
وبين أن البيروقراطية كان لها تأثير واضح على تراجع حجم تدفق الاستثمار الأجنبي وقيام المشاريع الاستثمارية في الأردن؛ حيث تمثل بطول المدة الزمنية للحصول على الموافقات لبدء المشاريع الاستثمارية وتعقد الشروط التي يتم منح الإذن بناء عليها، إلى جانب تداخل الاختصاصات بين الجهات القائمة على الاستثمار وما له من تأثير سلبي على القرار الاستثماري لدى كثير من المستثمرين الذين كانوا يرغبون في ممارسة نشاطهم في الأردن.
وأشار المدادحة إلى أن الحكومات المتعاقبة لم تتمكن من إصلاح البيئة الخاصة في اجتذاب الاستثمارات، على الرغم من بعض الإجراءات التي اتخذتها، ومنها النافذة الاستثمارية التي لم تنعكس على أداء الجهات القائمة على ملف الاستثمار، ولم تفلح في اجتذاب المزيد من الاستثمارات.
وبهدف التغلب على البيروقراطية في الأردن والحد من تأثيرها على العملية الاقتصادية، دعا المدادحة إلى ضرورة إعادة النظر في القطاع العام وتنظيمه وتمكين الإداريين الميدانيين من اتخاذ القرار، إضافة إلى تأهيل الموظفين للتعامل مع بعض القوانين بشكل مرن.
ودعا إلى وجوب تقليل تدخل القطاع العام في النشاط الاقتصادي ومنح صلاحيات ودور أكبر للقطاع الخاص، والإسراع في تنفيذ تحديث القطاع العام.
ومن جانبه، أكد الخبير الاقتصادي حسام عايش، أن مفهوم البيروقراطية تحول مع الزمن وأصبح يعبر به عن تهرم المسؤولية والترهل الإداري، والتمسك الحرفي باللوائح والنصوص، وتدني الأداء في أوساط موظفي القطاع العام، إضافة إلى التردد وعدم القدرة على اتخاذ القرارات من قبل المسؤولين الأقل تراتبية في سلم المسؤوليات.
وبحسب عايش، فإن ما سبق ينسحب بشكل كبير على الحال في الأردن؛ حيث أخفقت الحكومات المتعاقبة في وضع قوانين وتشريعات قادرة على معالجة الاختلالات التي تعاني منها القطاعات الاقتصادية، إضافة إلى استئثارها بالقرارات وتهميش الإدارات الصغرى.
وأوضح عايش، أن الفشل في ملف الاستثمار على مدار السنوات الماضية يعد مثالا صارخا على توغل البيروقراطية في المملكة؛ حيث إن ملف الاستثمار يتطلب أن يكون الأداء بأعلى مستوياته بسياق اتخاذ القرارات وتحمل المسؤوليات، إلا أن التفويض للإداريين غير موجود واتخاذ القرارات عادة ما يكون منوطا بشخص محدد أو جهة محددة، ما أدى في المحصلة إلى قتل طموح المستثمرين الراغبين بالاستثمار في السوق الأردني، إضافة إلى تعقيد الأنظمة أمامهم وتضارب الجهات والوزارات التي يحتاجون للتعامل معها.
ويرى عايش، أن التغلب على البيرقراطية التي تمددت بشكل كبير في السنوات الطويلة الماضية، يتطلب أن يكون هناك مراجعة حقيقية للأنظمة والقوانين والسياسات والإجراءات كافة المعيقة للإنجاز والمكرسة للبيروقراطية.
إلى ذلك، قال الخبير الاقتصادي زيان زوانة، إن الإدارة العامة كانت قبل عقود تعد من النقاط المضيئة في الأردن، لكنها تعرضت على مدى السنوات إلى تهميش وتراجع، ما جعلها تشكل عقبة أمام الأداء الإداري، حيث إن هناك سوء اختيار للموظفين والمسؤولين وتهميشا للكفاءة والقدرة على الإنجاز.
واعتبر زوانة، أن توسع المؤسسات الحكومية المستقلة في الأردن، خلال السنوات الطويلة الماضية، كان له تأثير سلبي على الوزارات المعنية بالاختصاص ذاته، ما أدى إلى تعمق التدهور المؤسسي، فخسرت الإدارة العامة العنصر البشري الكفء، كما خسرت الهيكل التنظيمي الفاعل.
وأكد زوانة أنه لابد من الإدراك أن أي عملية إصلاح إداري في الأردن تحتاج إلى سنوات طويلة نظير حجم الترهل الذي أصاب القطاع العام في السنوات الأخيرة، ولابد من مراجعة ووقفة حقيقية وجادة لاستعادة ألق الإدارة العامة الأردنية، مبينا أن الاستثمار في المملكة ضحية للترهل الإداري والبيروقراطية.
اقرأ المزيد :