هل نكره الفساد حقا؟

د. محمود أبو فروة الرجبي
د. محمود أبو فروة الرجبي

امرأة تطرق على زجاج سيارة واقفة في شارع فرعي في بريمن ألمانيا، وتطلب من السائق إطفاء السيارة أثناء الوقوف، وتقول غاضبة إن هذا يؤثر على البيئة.

اضافة اعلان

 

هذا الـمشهد رأيته بعيني، وما جعلني أصدم هو حجم الغضب لدى هذه السيدة على البيئة، وحرصها الشديد عليها، وحسدتهم – الغرب كله- على مثل هذه المرأة – وهذا ليس سلوكا فرديا هناك، بل هو عمل ينتج عن تفكير جماعي-، هذا العمل، ذكرني بأحد الأصدقاء في بلدنا عندما طلب من شخص يبحث في أكوام القمامة عدم رميها على الشارع، فما كان منه إلا أن رفع المسدس في وجهه، وسأله السؤال المقرف: ألا تعرف من أنا؟ وماذا يعمل أقربائي؟ 


الـموضوع أكبر من قضية سيارة بنزين تعمل في وقت يجب إطفاؤها فيه، ولا قمامة ترمي في الشارع من شخص لم يتعلم كيف يحافظ على البيئة حوله، بل يتعدى الـموضوع الأمر إلى تحويل الأمنيات والأحلام بمحاربة الفساد وكل أشكال مخالفة القوانين، وما يمكن أن يفيد الناس إلى أفعال يقوم بها الإنسان العادي، ويكون فيها كل شخص في الـمجتمع حاميا لها، وداعيا يحث الناس على تطبيقها.


للأسف أن جزءا من ثقافتنا يقدس مخالفة القوانين والفساد، وقد صدمت مرة أخرى من أحدهم عندما تم انتقاد أحد أقربائه الفاسدين، بجملة قال فيها بما معناه، أن قريبه مقدس، ولو كان لصا، والآخرون ملعونون ولو كانوا أفضل الناس.


يقدس العقل الجمعي العربي الأقرباء، ويعتبر أي مخالفة قانونية منهم مقبولة، في الـمقابل يرفض أي خطأ من الآخرين، وفي الوقت نفسه لا يعرف العربي كيف يكتسب مهارة من نوع مدهش اسمها (التفكير الإجرائي)، بمعنى تحويل ما أؤمن به إلى واقع، وفي العادة، فإن غالبية العرب يتغنون بالأخلاق الحميدة،ـ وبالبطولات القديمة، وبالقيم الدينية، والقبلية، وغيرها، وعندما يواجهون امتحانا بسيطا في الحياة من خلال شخص يرمي قمامة في الشارع، أو قريب يتبجح بأنه يسرق الكهرباء من الشبكة العامة، أو عندما يكتشفون فسادا ولو من موظف عام صغير، لا يفتحون أفواههم ويعتقدون أن الـموضوع لا يعنيهم، وهذا متوقع، لكن المصيبة الكبرى هي تبرير الفساد، والقبول به، بل والافتخار بالسرقة من الـمال العام، وبأنهم فوق القوانين، ولديهم نفوذ يحميهم، وبغض النظر إذا كان هذا الأمر صحيحا – قصة نفوذ بعض العائلات وقدرتها على التملص من القوانين- لكن مجرد الإيمان بذلك، والفرح به يطرق ناقوس الخطر، ويدعونا إلى الدعوة إلى إعادة التفكير بطريقة التربية، لينتج لدينا مجتمع يغضب للفساد، ولخرق القوانين، ويحث أفراده على الالتزام بها، تماما كما حصل مع السيدة الألمانية. 


لكن هل نحن نكره الفساد قولا وفعلا؟ قد يكون السؤال غريبا، فالأردني، ومعه أخوه العربي، يكرهون – نظريا على الأقل- الفساد كثيرا، ويعتقدون أنه واحد من أهم أسباب تأخرنا، وفشلنا في كثير من المشاريع الوطنية والقومية، ولكن، هذه قضية، وقضية الواقع مختلفة تماما.


الإشكالية الكبرى في العقل الجمعي العربي هي عدم الربط بين ما نفكر به، ونقوله، وبين الواقع، فمن خلال تحليلي لمئات الـمنشورات في مواقع التواصل الاجتماعي وجدت أن هناك تعريفا للفساد عند نسبة لا بأس بها من الناس – ستظهر النسبة بدقة بعد الانتهاء من الدراسة- وهي أن الفساد هو سرقة أموال الناس أو الدولة دون وجه حق من شخص ليس قريبي، أو لا مصلحة بيني وبينه-، وأن الغضب يكون عندما لا أكون أنا جزءا من منظومة الفساد. 


لا يمكننا تعميم ما قلته سابقا، فالناس بشكل عام طيبون، وحتى من يمارس مثل هذا الأمر قد يكون ضحية ثقافة مبنية على مخ أعوج لا يرى الواقع بشكله الصحيح، واعتقد أن جزءا من معركتنا في بلدنا الأردن، ووطننا العربي الكبير هي تصحيح المفاهيم عند الناس، وإعادة تعريف الفساد، والانتماء، والـمواطنة الصالحة وغيرها من المفاهيم، وفي الأثناء، بناء شعور وطني بكراهية الفساد الحقيقي، وبالنظر بعدالة إلى الآخرين، وبدلا من أن مفهوم الانتماء هو الحصول على الوظيفة، هو القيام بالواجبات، والحصول على الحقوق بعد تعريفها هي الأخرى بشكل صحيح. 


عندما نصل إلى درجة نرى فيها شخصا يوقف آخر ويطلب منه عدم رمي القمامة على الأرض، أو حينما نرى الناس تغضب لأن أحدهم سرق ماء أو كهرباء من الشبكة العامة، وقتها يمكن أن نقول إننا بدأنا بوضع قطارنا على السكة الصحيحة. 
بلدنا مليئة بالخيرين، والطيبين، والمنتمين، لكننا بحاجة إلى إعادة ضبط المفاهيم في عقول الناس، ووقتها ستصبح الأمور أفضل. 

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا