ألبانيا والعالم العربي الاسلامي: من أحمد زوغو حتى صالح بريشا

تشهد ألبانيا انفتاحا على العالم العربي الإسلامي تجلى في تفعيل عضوية ألبانيا في منظمة المؤتمر الاسلامي وفي زيارات مسؤوليها الى الدول العربية

اضافة اعلان

حتى مطلع  القرن العشرين كانت ألبانيا تظهر في الخرائط الاوروبية ضمن ما يسمى "الشرق الادنى". وفي الواقع ان هذا "التشرق" لالبانيا جاء نتيجة لحوالي 500 سنة من الحكم العثماني، حيث انتشر الاسلام وأصبح دين الغالبية كما انعكس ذلك على المظاهر الثقافية والحضارية: نشوء مدن جديدة بملامح شرقية ( تيرانا و كورتشا والباسان الخ) واستخدام الحروف العربية لكتابة الالبانية وبروز المؤثرات العربية الاسلامية في الادب الالباني الخ.

لذلك فقد اصبح عبور البحر الادرياتيكي الضيق يعني فيما يعنيه للرحالة الاوروبيين عبور الخط الفاصل بين الغرب والشرق حيث إن المدن الالبانية على الساحل (دورس وفلورا) أو في الداخل كانت تعبر بجوامعها وحماماتها ومدارسها ومقاهيها عن حضارة الشرق التي امتدت مع امتداد الدولة العثمانية باتجاه الغرب.

    ومع نهاية الحكم العثماني في أوروبا الجنوبية الشرقية (شبه جزيرة البلقان) في 1912 أُعلن استقلال ألبانيا، وبذلك كانت البانيا أول دولة أوربية بغالبية مسلمة(70% مسلمون و 20% ارثوذكس و 10 % كاثوليك).

      ومع هذا الاستقلال بدأت ألبانيا تعود الى محيطها الاوروبي مع تبني الابجدية اللاتينية للغة الالبانية ومع اقرار القانون الاساسي الذي دشن علمانية الدولة التي كانت تعني هنا المساواة بيت الاديان وحيادية الدولة تجاهها، وبذلك كانت ألبانيا أول دولة بغالبية مسلمة تتبنى العلمانية.

     ولكن قدر ألبانيا، التي كانت ترتبط بعلاقات قوية مع العالم العربي الاسلامي، جعلها تمر بمد وجزر حسب أنظمة الحكم التي تعاقبت عليها، وبالتحديد حسب الشخصيات التي تركت بصماتها الواضحة في تاريخ ألبانيا في القرن العشرين: أحمد زوغو وأنور خوجا وصالح بريشا.

    كان أحمد زوغو(1896-1966) ويمثل الجيل المخضرم العثماني الالباني باعتباره من ضباط الجيش العثماني، درس في استنبول وأقام في فيينا ورأى في نفسه منقذا لالبانيا من حالة التخلف التي ورثتها. وقد جاء زوغو الى الحكم بآلية ديموقراطية كرئيس للوزراء في 1922 ولكنه حكم ألبانيا لاحقا بشكل مطلق كرئيس للجمهورية (1925-1928) وكملك (1928-1939).وقد مثلت "الزغوية" لالبانيا حالة تحديث مفروض من فوق باتجاه التغريب، حيث إن زوغو كان يعتبر أن قدر ألبانيا أن تكون جغرافيا وحضاريا جزءا من الغرب في كل شيء.

     أما أنور خوجا (1908-1985) فقد كان (كما يدل اسمه) ينحدر من عائلة متدينة ولم يمنعه ذلك من الانخراط في الحركة الشيوعية خلال دراسته في باريس ومن المشاركة في تأسييس الحزب الشيوعي الالباني في 1941 الذي أصبح أمينه العام ومن ثم رأس الحكم في البلاد بعد وصول الحزب الى السلطة في نهاية 1944 اثر حرب أهلية بين اليمين واليسار.

     وكما هو الامر مع زوغو فقد ارتبط اسم ومصير ألبانيا لعدة عقود باسم خوجا. ومع أن ألبانيا لم تكن الدولة المسلمة الاولى التي يحكمها حزب شيوعي الا أن "الخوجوية" تطرفت في موقفها ازاء الدين وتجاوزت في ذلك حتى الصين الماوية. ففي 1967 صدر "مرسوم منع الدين" الذي جعل ألبانيا أول دولة ملحدة في العالم. فقد اغلقت آنذاك كل الجوامع والكنائس في البانيا واعتبرت اية ممارسة لشعائر الدين (ولو في البيوت) جناية يعاقب عليها القانون. وفي هذا السياق فقد "أممت " دور العبادة وحولت لاستخدامات مختلفة، كما أرسل كل رجال الدين الى معسكرات العمل لاعادة تأهيلهم لممارسة مهن أخرى.

     وكان من الطبيعي أن تنعزل ألبانيا في صورة كاملة عن العالم العربي الاسلامي، حيث كان الحج والدراسة من قنوات التواصل حتى ذلك الحين. وعوضا عن ذلك ركز النظام الجديد في وسائل اعلامه القوية على دعم "حركات التحرر ضد الانظمة الرجعية العربية" كما أيد حركات المقاومة الفلسطينية ضد اسرائيل باعتبارها "حليفة الامبريالية".

     ومع أن أنور خوجا توفي في 1985 الا أن هذا الخط  المتشدد بقي مستمرا بعد وفاته بفضل زوجته نجمية خوجا التي كانت في قمة الهرم الحزبي / السياسي في البلاد الى أن حدث الزلزال الكبير في اوربا الشرقية خلال 1989. ومع أن ألبانيا "الخوجوية" بقيت تقاوم انعكاسات الزلزال الكبير عليها الا انها كانت مقاومة الانفاس الاخيرة.

      وفي هذا السياق برز صالح بريشا الذي يمثل الانتقال من الحكم الشمولي الى الحكم الديمقراطي ومن الانعزال عن العالم العربي الاسلامي الى الانفتاح على هذا العالم الذي كانت ألبانيا ترتبط به خلال عدة قرن. وكان الطبيب بريشا قد برز خلال المظاهرات الطلابية الحاشدة في كانون الاول 1990 التي أرغمت النظام الشمولي على التنازل والقبول بالتعددية السياسية. وبناء على ذلك قام بريشا بتأسيس اول حزب غير شيوعي (الحزب الديموقراطي) الذي شارك في أول انتخابات ديمقراطية وفاز فيها، ما سمح ذلك بانتخاب البرلمان الالباني الجديد في آذار 1992 بانتخاب بريشا رئيسا للجمهورية.

      وكان من أهم القرارت التي اتخذها بريشا في ذلك العام انضمام البانيا الى منظمة المؤتمر الاسلامي، الذي هاجمته المعارضة الاشتراكية (وريثة الحزب الشيوعي) باعتباره يهدف الى "أسلمة" ألبانيا وإبعادها عن "الاوربة". وفي الواقع كان بريشا يجمع بين أوروبيته وإسلامه ، حيث انه كان يأمل آنذاك بأن تستعيد ألبانيا دورها كجسر بين الشرق والغرب. وقد شجع بريشا آنذاك العرب على القدوم والاستثمار في ألبانيا، التي كانت في أمس الحاجة الى الاستثمارات الاجنبية خلال  الانتقال من  النظام الشمولي الى النظام الديمقراطي.

       ولكن الاوضاع الاقليمية كان لها دورها في خسارة بريشا لانتخابات 1997 وعودة الحزب الاشتراكي الى الحكم (1997-2004)، التي شهدت من جديد انعزال ألبانيا عن العالم العربي الاسلامي حيث بقيت عضوية ألبانيا في منظمة المؤتمر الاسلامي شكلية فقط.

      ومع عودة بريشا الى الحكم ثانية في 2004 كرئيس للحكومة، بعد تعديل الدستور الذي جعل معظم السلطة التنفيذية بيد رئيس الحكومة، شهدت ألبانيا من جديد انفتاحا على العالم العربي الاسلامي تجلى في تفعيل عضوية ألبانيا في منظمة المؤتمر الاسلامي وفي زيارات بريشا وغيره من كبار المسؤولين الى الدول العربية (مصر والسعودية والعراق والكويت الخ).

     وقد أعطى الناخبون الالبانيون ثقتهم مرة أخرى لبريشا في انتخابات حزيران الماضي ، ما  يعني أن بريشا سيعيد تشكيل الحكومة التي تتولى الحكم خلال 2009-2013 على الاقل. وقد أتيحت لي خلال زيارتي الاخيرة لالبانيا أن ألتقي بريشا في مطلع آب وأن أسمع منه حرصه الكبير على تطوير علاقات ألبانيا بالعالم العربي الاسلامي خلال السنوات المقبلة.

     ومن المأمول اذن أن يشكل بريشا حكومته الجديدة خلال ايام وأن نرى المزيد من التواصل والتعاون بين ألبانيا والعالم العربي الاسلامي خلال السنوات المقبلة.