احرقوا البيادر وانهزموا!

امتدت ثورة 1936 إلى شرق الأردن. وجاء ثوار من فلسطين إلى "الشفا"، وانضم إليهم عدد من أهالي البلدات حول وادي اليابس، وفارا، وجديتا، وحلاوا، والوهادنة. وتمركز الثوار في فارا. وكان الشيخ راشد الخزاعي؛ أمير جبل عجلون قبل الإمارة، يؤوي الثوار ويساعدهم، يشاركه في ذلك عدد من الأهالي في الجبل.اضافة اعلان
الغرايبة؛ بطيئو التكيف مع الفلاحة، والميالون إلى التمرد، الرافضون للسلطة أي سلطة، والمتضررون من إغلاق الطرق والمنافذ إلى فلسطين والجولان، ما أجبر عددا منهم على العودة إلى الجبال الوعرة الشحيحة، وحرمهم من القدرة على التحرك الموسمي والدائري للرعي والمقايضة والاختباء في وادي الأردن وحوله.. وجدوا في الثورة عودة إلى زمن ما قبل 1921؛ عندما كانت البلاد مفتوحة على بعضها. وليس أسوأ على أهل المناطق الحدودية من أن تغلق في وجههم الحدود! رعاة ومربو الإبل، على سبيل المثال، في البادية الشمالية، اضطروا للتخلص منها!
كان عزل المنطقة عن بيسان والجولان وحيفا، أسوأ ما لحق بها، وحوّلها إلى مكان معزول ومهمش. فقد كان أهلها يقصدون بيسان على نحو متكرر شبه يومي للتسوق وبيع المنتجات المحلية، ويعالجون مرضاهم في طبريا والناصرة. وقبل الإمارة، كانت الإدارة العثمانية التي يتبعون لها مقرها حيفا. ومن الطرائف أن المختار المكلف بجمع الضرائب وتسليمها للإدارة العثمانية، ذهب إلى حيفا كما العادة السنوية. لكنه لم يجد أحدا من الموظفين والجنود الترك ليتسلم الضرائب!
ومن المدهش أن الأهالي فيما بعد، وربما بسبب التحدي الناشئ، كانوا الأكثر اندماجا في التعليم، وبخاصة بعد شق قناة الغور الشرقية (قناة الملك عبدالله فيما بعد)، وغيروا على عجل في أسلوب حياتهم ومواردهم.
في صيف العام 1937، وفي موسم البيادر؛ هاجم الجيش بقيادة غلوب باشا المنطقة، وأغارت الطائرات على فارا. وجاء غلوب بنفسه وتمركز مع فرسانه وآلياته في فارا. وتلاشت الثورة؛ اختفى الثوار الأذكياء، وقتل الحاج ابراهيم الربابعة واعتقل آخرون وعذبوا.
كانت نقطة ضعف الثورة هي البيادر التي تمثل بالنسبة للناس حصيلة الموسم، ومن دونها يموتون من الجوع، وكان لا بد من التسوية لأجل البيادر. أما الثوار المتفرغون للثورة، فكان اقتراحهم على الأهالي: "احرقوا البيادر وانهزموا". وبالطبع، من وجهة نظر فوضوية؛ كانت فكرة استراتيجية لو حرقت البيادر، فلن يظل للرجال أمل سوى الثورة، والتخفي والنهب لئلا يموتوا من الجوع، وهذا يورطهم إلى الأبد أو لفترة طويلة في الملاحقة. ولما كانت "الفرارية" من العثمانيين مشحونة بذاكرة المرارة، فقد تغلبت ديناميكية البيدر والتسوية على رومانسية الثورة.
أدار وجهاء القرية ومخاتيرها تسوية وتفاهما مع الجيش وقائده غلوب، انتهت بخروج الثوار من غير الاهالي وعودة الأهالي إلى بيادرهم. وصارت مقولة "احرقوا البيادر وانهزموا" مثلا يردده أهل الشفا على سبيل الفكاهة والسخرية من الحلول الفوضوية!