النظرة المادية.. هل باتت تحكم حياة أطفال وتدخلهم دوامة "الفروق الاجتماعية"؟

+65
+65
رشا كناكرية عمان – ردة فعل غريبة لم تعهدها أم عمر من قبل طفلها عمر ذي الـ 9 أعوام، جعلتها تقف مصدومة أمام كلامه تعبيراً عن رفضه لارتداء الملابس التي اختارتها له ليذهب بها للمدرسة. “لا أريد أن أرتدي هذه الملابس، فقد ارتديتها من يومين الأولاد الآخرون سيتحدثون عني”، هكذا كانت إجابة عمر. فما كان سؤالها إلا عن سبب رفضه لتكتشف أن هنالك عددا من الأطفال الآخرين يعاملونه بأنه أقل منهم نظرا لوضعهم المادي المرتفع ويحكمون عليه من ملابسه. لم تتوقع أم عمر أن هنالك أطفالا بعمر الورد يفكرون بهذه الطريقة المادية ويميزون بين بعضهم البعض، بالنظر للملابس وما يمتلك أهلهم من أشياء مادية. لاحظت أن هذه النظرة الفوقية التي تعرض لها عمر من رفاقه جعلته يتجنب الأطفال الآخرين، ويبتعد عنهم ويشعر بالخجل من نفسه ومن وضع عائلته، وهنا قررت أن توضح له العالم وطريقة تفكير بعض الأشخاص والأهم أن تعلمه كيف يتصدى لكل هذه النظرات المادية بإيمانه وثقته بنفسه والرضا بالحياة التي يعيشها. في البداية، عملت على زرع الثقة بداخله وأن تبين له الأمور التي فعلا يستحق الإنسان أن يميز بها من خلال إنجازاته وتفوقه، ووضحت له أن الأمور المادية تأتي وتذهب، ولكن جوهر الإنسان وإنجازاته في الحياة هي التي تبقى وتجعله إنسانا مميزا والجميع ينظر إليه بفخر. مع الوقت، استطاعت أن تزرع هذه الأفكار في عقله لتستطيع أن تغير هذه الأفكار المخيفة التي إذا لم تعالجها في صغره سوف تبقى معه وتؤثر عليه في المستقبل بجميع جوانب حياته وتصرفاته. ووفق خبراء، فإن هذه النظرة المادية هي مشكلة تربوية تبدأ من الأهل وقد تصنع فجوة نفسية عند الأطفال على المدى البعيد وتخلق لديهم فروقا طبقية واجتماعية تؤثر على علاقاتهم مع الآخرين في المستقبل. أخصائي طب نفس الأطفال الدكتور رأفت أبو رمان يؤكد أن الأطفال لا يعلمون ما معنى المادية أو النظرة الطبقية، وإنما يرون الأهل كيف يتعاملون ويتكلمون فيها مع غيرهم، وبالتالي هم يتبنون هذه التصرفات. ويوضح أن كثيرا من الآباء ينظرون إلى الأمور المادية ويتكلمون بها أمام أطفالهم، وبالتالي يصبح لديهم نفس الفكرة والنظرة وتؤثر على الجانب النفسي لهم، فهم يأخذون فكرة أن هنالك من يمتلك المال، وغيرهم لا، وبالتالي التعامل مع الأطفال الآخرين بهذه الطريقة نظرا لما يملكون، وهذا يدعم النظرة النرجسية أو السلوك النرجسي لديهم فيما بعد. ويشير أبو رمان أنه عندما يتعرض الطفل لهذه النظرة المادية الفوقية، فإن دور الأهل يتلخص في تثقيفه وتعليمه إنه قد يواجه مثل هذا الأمر وأنه طبيعي الحدوث، فالبعض يملك أشياء كثيرة والبعض لا، وهذا بالتأكيد ينبغي أن لا يؤثر على طبيعة العلاقات. لذلك على الأهل الانتباه بعدم إثارة النعرة الفوقية أمام الأطفال، لأن الصغير يخزن ما يرى ويتعلم ويتعامل بنفس الطريقة، وبالتالي يصبح منهجا أو سلوكا يمتلكه فيما بعد بالتعامل. في حالة أخرى، لم يتوقع الأب عامر عبدالرحمن، أن يسمع حوارا غريبا دار بين ابنه يزن وصديقه وأعمارهما 9 سنوات، حيث كانا يلعبان معا في البيت، ليسأل صديق ابنه عن نوع السيارة التي يمتلكها والده، وحينما رد عليه يزن عن نوعها، قال له “نحن نملك سيارة أغلى ثمنا وأفخم بكثير.. شكله انتو ما عندكم مصاري مثلنا”. لم يتوقف الحوار عند ذلك، فكان أغلبه عما تملك عائلة صديق طفله وهو يتحدث بتفاخر بالحديث عنها، ما أثار استغرابه واستهجانه، فكيف لطفل صغير أن ينظر للأشياء بنظرة مادية وتكون مجمل حديثها. لكن شعر عامر بالفخر، وأن تربيته لم تذهب سدى، حينما أجاب طفله صديقه، “صحيح سيارتنا مش غالية كثير بس إحنا بنحبها كثير وما بدنا يكون عنا غيرها.. وبابا وماما ما بحرمونا من شي.. بكفي إنهم بحاولوا يعملونا كل شي بنحبه”. بيّن مستشار أول طب نفسي ودكتوراه سريرية طب نفسي الدكتور أمجد جميعان أن الأهل يساهمون أحيانا بتثبيت الفروق الطبقية عند الطفل، وعدد من الأهالي يتعمدون ذلك بالتعامل مع من حولهم وينتقل هذا الأمر لأطفالهم بإقناعهم أنهم أفضل من غيرهم وهذا أوجد مشكلة تربوية إذ أصبح المنصب والمال لدى البعض أهم من الانجازات والشهادة الجامعية وهذا نمط تربوي يحتاج إلى تغيير وانتباه. ويوضح جميعان أن الطفل يقلد والديه في أغلب التصرفات، فهو مرآة لما يرى في البيت، مبينا أن التأثيرات النفسية على المدى البعيد تقوده ليعيش في تناقضات، ويصبح أكبر هم لديه المال والمظهر وليس الاقتناع بنفسه وما يملك أو بإنجازاته. والصحيح، وفق جميعان، ألا يعطى الطفل كل ما يطلب إنما ضمن قدرات الأهل، بحيث يعرف الحدود التي يعيش بها، ويفتخر بها ويقدر ظروف العائلة، ولا يحملها فوق طاقتها. ويشير إلى أن بعض الأطفال قد يلجأون لعادات سلوكية سيئة، مثل الكذب والسرقة فقط للتشبه ومواكبة غيرهم، وصناعة عالم آخر لعائلاتهم غير موجود على أرض الواقع. ومن جهة أخرى، فإن هذا أوجد مشاكل جديدة عند الأطفال وأصبح التنمر مشكلة أكبر يعيشون بها، وزادت نسبة الإحباط والمشاكل السلوكية التي تقود للعزلة والابتعاد عن الآخرين وفقدان الثقة بالنفس. وفي النهاية هم أطفال صغار وعقلهم لا يحتمل هذا النمط الطبقي والحكم من خلال المظهر الخارجي أو الأمور المادية، لذلك وقبل أن تؤول الأمور للأسوأ ينبغي المعالجة مبكرا. ومن الجانب التربوي يبين الدكتور عايش نوايسة أن الأساس في هذه المشكلة الأسرة، إذ إن التربية الصحيحة أساسها ثقافة قبول الآخر بطريقة إيجابية، إلى جانب التواضع والاحترام والمودة والتسامح والتعاطف التي تتشكل بها مفهوم الإنسانية وليس بالنظرة المادية. ويضيف نوايسة أن القضية المادية لا تشكل الإطار العام لحياة الانسان، ولا يمكن أن يقارن بها من خلال ما يمتلك الفرد من مال، “هذا غني وهذا فقير” فهذا لا علاقة له في كيف يعيش الإنسان حياته أو الطريقة التي يعيش بها. تفكير الأهل بهذه الطريقة وبما يمتلك الفرد من كماليات في هذه الحياة، ينتقل للطفل، فهو آلة تسجيل لكل الكلام الذي يحدث أمامه من قبل والديه ولأي سلوك يصدر منهم بالذات في المراحل الأولى من حياته، مبينا نوايسة ضرورة انتباه الأهل لهذه السلوكيات التي تعزز النظرة المادية أو “نظرة التمايز” بين الناس من منظور طبقي. ويشير نوايسة إلى أن هنالك قيما وثوابت تتعلق في أساسيات الحياة واحترام الآخرين وقيم المودة والتسامح والتعاطف، وتربية الطفل ينبغي أن تكون بهذه الطريقة. ومن جهة أخرى فإن النظرة المادية تقود الطفل للغرور، ويصبح تفكيره ماديا أكثر، لذا من المهم معالجة الأمر من خلال تدخل تربوي من المدرسة بتفنيد فكرة الفروق الطبقية بين الطلبة والحديث معهم عن خطورة هذا الأمر وتبعاته وخطورته، وأن تفوق الإنسان وتقدمه وسعادته لا يحسب بالمال. النظرة المادية قد تسبب فجوة نفسية عند الطفل الأقل بمستواه المعيشي، وذلك يتنافى مع المبادئ الدينية والإنسانية، مبينا أن التمايز يكون من خلال الدور الذي يؤديه الإنسان في الحياة، ويطور من شخصيته وليس بما يملك، بحسب نوايسة. ومن جانب آخر على الأهل تعليم الطفل كيف يعيش بالظروف السهلة والصعبة، بطريقة تربوية لا تقدم له الكثير من “الدلال” وهذا لمصلحته، ويجب أن يحترم ويقدر ما يملك وأن لا يكون الطفل اعتماديا واتكاليا على والديه. ويؤكد نوايسة أن الخطورة تكمن عندما ينتقل هذا السلوك بين الطلاب في بيئة المدارس، وتصبح “عدوى” ما يسبب شرخا عند الطلاب.اضافة اعلان