تحذيرات من ازدياد الإقبال على التشخيص النفسي

تحذيرات من ازدياد الإقبال على التشخيص النفسي
تحذيرات من ازدياد الإقبال على التشخيص النفسي
شيء غريب يحدث في عيادات الأمراض النفسية خلال السنوات القليلة الماضية. فقد كانت أعداد كبيرة من الناس، وخاصةً من المراهقين والشباب، يسعون وراء الحصول على التقييمات النفسية التي تؤكد إصاباتهم بالأمراض العقلية. وغالبا ما يصرون على تشخيص القلق، والاكتئاب الشديد، واضطراب فرط النشاط ونقص الانتباه، واضطراب طيف التوحد، واضطراب ما بعد الصدمة، وربما الأكثر غرابة على الإطلاق اضطراب الشخصية الحدية. ليست الغرابة هذه لأن إجهادات حياتهم لا تمثل تحديا وأن محنتهم حقيقية، لكن لأن الصعوبات التي يعانون منها عادة ما تكون قاصرة عن المعايير اللازمة للتشخيص، وهي تظهر ضمن النطاق الطبيعي.

رغبات التشخيص النفسي

ماذا يحدث؟ كيف انتقلنا من إلغاء الوصمة عن المصابين بالأمراض النفسية فعلاً إلى الرغبة في التشخيص النفسي بين عشية وضحاها؟ يبدو أن العديد من الناس، وخاصةً الجيل الأحدث سنا، يستخدمون لغة الصحة العقلية ويتقبلون النصيحة بالحديث الصريح عنها. عموما، هذا تقدم مرحب به، ولكن يبدو أن شباب اليوم قد استبدلوا استخدام كلمات مثل التوتر والضيق بمصطلحات مثل مشكلة الصحة العقلية أو الاضطرابات العقلية. ربما يعود ذلك إلى أن التوعية بالصحة النفسية في المدارس يعمل بشكل بأفضل مما قد يتصوره أي شخص، أو ربما تكون اعترافات المشاهير بالمعاناة النفسية لهم، لها تأثير كبير. يبدو أيضاً أن العدوى الاجتماعية تلعب دورا كبيرا في هذا السياق. فهي عامل قوي وأكثر انتشاراً مما هو مقدر عموما، ما يقود بعض الناس إلى مجرد المبالغة في تقدير الأعراض والمبالغة فيها. قد يصاب الناس بأعراض نفسية، أو على الأقل بأعراض تبدو نفسية، من خلال قوة الإيحاء والمبالغة في التعرف بالآخرين الذين تظهر عليهم الأعراض فعلا. وعندما يقوم الشباب المصابون باضطرابات حقيقية - مثل متلازمة توريت Tourette syndrome - بوضع مقاطع فيديو لهم على منصات «تيك توك» و«يوتيوب» كإجراء للتحقق من الذات، يظهر فجأة في عيادات الأطباء النفسيين شباب بأعداد كبيرة من الذين يحملون نفس الأعراض. “متلازمة توريت”: تشنجات تؤثر على الذكور أكثر من الإناث.. هل سمعت عنها؟ بالموازاة مع الأشخاص الميالين إلى التشخيص الذين يتواجدون في عيادات الأطباء، يستخدم أشخاص من المتحدثين العاديين مصطلحات علم النفس المناسبة، ويكيفونها تماما للغة الشارع الدارجة. وهكذا يصفونها على نحو مغاير فبدلا من الإشارة إلى الضغوطات العادية والمماحكات السلوكية... يقولون: «إنك مصاب بالوسواس القهري»، «أنك ثنائي القطب للغاية»، أو «أنا مصاب باضطراب فرط النشاط»، أو «أنه يعاني كليا من طيف التوحد». ومع أن هذه التوصيفات لا تعني أخذ الكلام بمأخذ الجدية بالضرورة، إلا أنها تثير سوء فهم بخصوص الاضطرابات النفسية الحقيقية.

تشخيصات ذاتية

بالنسبة إلى أولئك الذين يرغبون بقوة في تشخيص أنفسهم بأنفسهم، فإن المضي قدما في ذلك يوفر لهم شرحا لمصاعبهم. إذ أن هذا يجعل الشخص يشعر بأنه مفهوم. ويبسط التعقيد كثيرا، ويساعد في فهم الأشياء مع خلق نوع من النظام لما لا تفسير له أو للأمور الفوضوية. كما يوفر مصداقية وشرعية لنضال المرء، وقد يقدم تبريرا لنقائصه، أو للصعوبات السلوكية. كما أنه يضفي شعورا بالهوية والانتماء الجماعي. وقد يحقق فوائد عملية: الإجازات المرضية، واستحقاقات العجز، والتسهيلات الدراسية، وتغطية التأمين العلاجي. قد يكون من المفيد التأمل في الرغبة الغريبة في تشخيص اضطراب الشخصية الحدية. لقد كانت «اضطراب الشخصية الحدية» تسمية غير مرغوبة للغاية، ووصمة عار لأنها تشير إلى شخص مختل للغاية وغير مستقر عاطفيا. تتداخل المعايير مع حالات أخرى وسمات شخصية حتى تصبح عرضة للتشخيص المفرط، لا سيما بين أولئك الذين يمارسون التشخيص الذاتي على الإنترنت. لعل جزءا من جاذبية هذه الحالة لمفاجئة وغير المتوقعة ينبع من الفكرة المبسطة للغاية بأن كل الاضطرابات العقلية هي أمراض، منفصلة عن الذات - وأنها أمور تحدث لأدمغة الناس، ربما في مرحلة مبكرة من النمو، بدلا من توصيفات بماهية الشخص نفسه (كما هو الحال خصوصاً بالنسبة إلى اضطرابات الشخصية). يشير تشخيص اضطراب الشخصية الحدية إلى شخص أصيب باضطراب ما - ضحية - وليس شخصاً «صعب المراس» للغاية (وإن كان ذلك يرجع جزئيا إلى عوامل خارجة عن سيطرة الفرد). هناك تكاليف ومخاطر مرتبطة بالاستيعاب المفرط لمصطلحات الطب النفسي، والتشخيص الذاتي المتلهف، والإفراط في التشخيص من قبل الأطباء المعالجين الذين يتعاملون مع تقارير المرضى المبالغ فيها عن الأعراض بقيمتها الظاهرة: فالأدوية مغالى في وصفها، والأمراض العقلية الحقيقية تصبح تافهة، والطب النفسي يصبح بلا مشروعية، والأشخاص الأكثر احتياجا إلى الخدمات النفسية يواجهون صعوبة في الوصول إلى نظام مثقل بالإحالات المرجعية غير الضرورية.

تضخيم لغوي للاضطرابات

علاوة على ذلك، يفتقد شيء مهم في سيل التضخيم اللغوي (للأمراض النفسية) - وهو قبول التوتر والضيق كسمات ملازمة للحياة. ربما تكون الحياة في هذه الأيام أكثر إجهادا وتوترا من أي وقت مضى بالنسبة إلى الشباب - رغم التقدم المادي ووسائل الراحة في المجتمعات الغربية العصرية، ورغم الحياة في وقت السلم. ويواجه العديد منهم توقعات متزايدة، ومنافسة، وضغوط زمنية، وخيارات، ووفرة من المعلومات، ووسائل التواصل الاجتماعي، وإدراك غير مسبوق للتهديدات المجتمعية البعيدة بدنيا وزمنيا. يشعر الجميع بفقدان القدرة على التكيف والمرونة في بعض الأحيان. والعلاج النفسي ليس هو الحل لذلك. إن أغلب الاضطرابات العقلية تكمن في إحدى نهايات سلسلة متصلة فيما يتصل بالسمات والصعوبات الطبيعية (والتشخيص أقل ترتيبا من التشخيصات التي قد يضعها الدليل التشخيصي الإحصائي للاضطرابات الذهنية في الظهور). وهناك منطقة رمادية واسعة يمكن أن ينطبق فيها التشخيص أو لا ينطبق. وقد يعاني العديد من الأشخاص في هذه المنطقة الرمادية من مشاكل نفسية واجتماعية كبيرة، وقد يستفيدون من المساعدة المهنية. تشخيص الاضطراب لا يجب أن يكون التذكرة الوحيدة للدخول إلى باب الطبيب النفسي. فإذا كان كل شخص يعاني من خلل عقلي، فلا أحد يصاب به، وبهذا يصبح مفهوم المرض العقلي فارغا من المعنى. (وكالات) اقرأ المزيد:  اضافة اعلان