"على قيد الضحكة الأبدية" كتاب يسرد تجربة محمود موسى الروائية

غلاف الكتاب- (الغد)
غلاف الكتاب- (الغد)

عزيزة علي

عمان- صدر عن وزارة الثقافة الفلسطينية كتاب بعنوان "على قيد الضحكة الأبدية: محمود عيسى موسى روائيا"، للفنان والفوتوغرافي الأردني صالح حمدوني، يتناول فيه تجربة الروائي والكاتب الأردني محمود عيسى موسى.اضافة اعلان
ومن أبرز المواضيع التي تناولها الكتاب "التسلح بالذاكرة- ذاكرة خصبة بالتفاصيل الجميلة للوطن- شعب روائي في الشتات- زمن المقبرة- بطولة الإنسان بطولة المكان- الموروث والذاكرة الشعبية- حنتش بنتش- معمار روائي بمفاتيح طربية- وبين السيرة الذاتية والتخييل".
يقول حمدوني "إن فكرة الكتابة عن تجربة الروائي الأردني محمود عيسى موسى جاءت عندما التقاه أول مرة في أوائل التسعينيات في المهرجان "اللجنة الشعبية الأردنية لدعم الانتفاضة الفلسطينية"، بالاشتراك مع رابطة الكتاب الأردنيين في بلدة "كفر سوم"، شمالي الأردن استذكارا لأول شهيد أردني على أرض فلسطين، وهو الشهيد كايد مفلح العبيدات".
ويضيف "في العام 1995 أصدر موسى روايته الأولى بعنوان "حنتش بنتش"، التي تركت أثرا كبيرا في تلك المرحلة، وحازت اهتماما شعبيا وثقافيا كبيرا، وأثارت أسئلتي حول النكبة والمخيم والحياة، وفي تلك الأعوام خاض موسى تجربة "رواق الحصن"، حين قام بترميم بيت تراثي في بلدة الحصن جنوبي إربد، ثم حوّله إلى جاليري وملتقى ثقافي وفني، كنا حينئذ بأمسّ الحاجة لهذه المساحة الإبداعية؛ حيث شارك عدد من الأصدقاء والمهتمين في جهود ترميم وصيانة البيت وصولا إلى افتتاحه، كان ذلك الرواق أول مكان ثقافي وفني شُيّد بجهد فردي في شمالي الأردن، يستضيف عددا كبير من المبدعين الأردنيين والعرب في ندوات ومعارض وأمسيات مميزة ومختلفة، لكن هذه التجربة انهارت وسببت خسارة فادحة مادية ومعنوية لموسى، عانى منها طويلا".
قسم المؤلف الكتاب الى فصول، كل واحد يتناول رواية، وحسب الترتيب الزمني لإصدارها "فبدأت بالأقدم، وعمدت إلى ترتيب المواد النقدية التي تخصها بالآلية نفسها أيضا، ولم أتدخل في مضمون أي من الكتابات النقدية إلا بما يحقق الهدف من الكتاب"، مشيرا الى أنه حاول أن ينزع عن بعض المواد صفة العمل الصحفي أو الاحتفالي التي تضمنتها، حيث إن قسما منها كُتب كقراءة نقدية للأعمال الروائية ونُشر في حينه مباشرة في الصحف والمجلات، وقسما آخر كتب لمناسبة حفل توقيع أو إشهار رواية، أو احتفاء بالكاتب في مناسبات عديدة.
يقول حمدوني "إن موسى تعامل مع الكتابة بمتعتها وسحرها ونشوتها، ومن خلال الكتابة عمل على إنجاز مشروعه الروائي يقدم من خلاله تجاربه الحياتية الخاصة به، أو تجارب الآخرين، بسحر رواياتهم الشفهية وتقنياتهم الفطرية، أو ذاكرة الطفولة التي لا تنضب، واللغة التي حوّلها إلى بطل من أبطال رواياته، فموسى يفتح ذاكرته على مصراعيها، بفوضاها الزمانية والمكانية، بأحلامها وأساطيرها، بضعفها وقوّتها، دون تجميل؛ لهذا تبدو كتابات محمود عيسى موسى كلها تنويعات روائية على سيرة ذاتية".
ويشير المؤلف الى رواية "حبيبتي السلحفاة"، التي يقول فيها محمود: "أنا رجل على حافة السبعين بأربع أذرع، نصفي السفلي سلحفاة، أجلس على قاع المحيط بعد الطوفان العظيم، فوق ظهري الجبل الشامخ، الجبل القديس، جبل الكرمل، سلحفاتي رمز الأنوثة والخصب والنشاط والحيوية".
ويرى حمدوني أن موسى يجعلنا نتعرف على شخصيات رواياته عبر مشاركة أفكارهم الخاصة، فهو لا يقدمهم لنا، إنهم يقدمون أنفسهم بتلقائية، يقدمون انطباعاتهم وتأملاتهم وتساؤلاتهم وذكرياتهم وتهويماتهم، في روايات محمود تتعدد الأصوات، مع حفاظها على استقلاليتها، كما أنه يفرض مونولوج الشخصية إيقاعا بطيئا على السرد، لكنه يتجاوز هذه الإشكالية عبر اللغة وانتقالاتها بين الفصحى واللهجة المحكية، أو عبر تضمين السرد في لحظة ما أغنية أو يذهب الى معالجة الكلمات لتتحول إلى فكاهة، ما يضفي على الأحداث أو المواضيع جاذبية تجعلنا نراها كما لو أننا نصادفها لأول مرة.
ويشير الى أن الكتابة عند موسى تعني الدفاع عن الهوية، وأحيانا يجعلها تبحث عن الهوية، فلم يجد موسى في نكبة فلسطين ضياعا للهوية، بل كشف عنها، لقد اكتشف أن هويته تمتد في الجغرافيا آلاف الأميال، وفي التاريخ عشرات القرون، ولم يورط رواياته في الجانب السياسي، الذي كان يفرض نفسه عليها بحكم الضرورة لا بحكم البذخ الكتابي، كما أنه في رواياته ينحاز للفقراء والمهمشين؛ شخصيات رواياته فقراء معدمون بسطاء، أو نماذج لفقراء خاضوا تجارب فارقة في حياتهم أثْرت وعيهم ومارسوا هذا الوعي في يومهم، شخصيات تشبثت بالثقافة الشعبية، استمع منهم من خلال رواياتهم الشفاهية بأحداثها وحبكاتها، بشخوصها وأمكنتها، بتشويقها وذرواتها، بمفرداتها باللهجة المحكية والفصيحة، بصرامتهم وسخريتهم، بضحكاتهم وبصدقهم وكذبهم، بالفداء والبطولات والمقاومة، رجالا ونساء.
وأكد حمدوني أن موسى لم يستغل مظلومية الفلسطيني لتقديم رواية تستعطف القارئ وتداعب مشاعره، بل ذهب عميقا في تشريح شخصية اللاجئ لتقديمها على حقيقتها الإنسانية، بذاكرتها وارتباطها بالمكان وإصرارها على الحياة. معتبرا أن الالتزام هو الإيمان بالحق والعدالة والحرية والجمال، وهو الاشتباك مع الحياة من جوانبها الإنسانية والعلاقات الاجتماعية وصيرورة حركة المجتمع، هذا الاشتباك هو ما يغني النص الإبداعي ويرتقي به بعد موسى.
ويتحدث المؤلف عن "التجريب"، في كتابات موسى الروائية، فهي "سمة عامة في أعماله"، لقد خاض مغامرات إبداعية في الكتابة، تنوعت بين التوسع باستخدام اللهجة المحكية واللعب على الألفاظ وتقطيعها وإحالاتها، وفي كتابة النثر بلغة شعرية، استخدام اللهجة المحكية هو هدف بحد ذاته، وليس مجرد وسيلة لقول خطابه الروائي، لافتا الى ما قاله محمود في واحد من لقاءاته الصحفية "استخدم المحكية للتعبير عن مكنونات الشخصية وتعبيرات شخصياته عن الأمكنة التي عاشوا فيها، هذه اللهجة هي التي شكلت روح التعامل بين الناس في الزمان والمكان"، مدفوعا بخوفه على هذه اللهجة من الضياع كما ضاعت الأرض، يقول محمود "يتفرعط القمح والنسوة والعكـوب والسنّارية، يتفرعط البرتقال والحبق وعناقيد الحصرم والثوم المعلّق في سقوف الدور، تتفرعط الحقول والطرقات ويخفق المرج والطرقات الضيقة".
ويشير حمدوني الى أن موسى استخدم في كتاباته أيضا تقنية القطع السينمائي والانتقالات الزمانية وإدخال الشخصيات في حالات مونولوجية مفاجئة، يقول "قصر العظم في دمشق بيت دمشقي في غاية الحلم، له قاع واسعة، وقاع الدار في مخيم إربد نموذج مصغّر عن هذا القصر، مع فارق ليس له أدنى أهمية أو اعتبار، في قاعنا لا يوجد لحم ولا حتى عظم"، كما في اللجوء إلى التشكيل البصري لبعض المشاهد الروائية، متأثرا بتجربته في الفن التشكيلي وشغفه بالسينما.
ويرى المؤلف أن موسى في كتاباته يذهب الى أنسنة المكان وعناصر الطبيعة، فتعامل معها بإدراكه الخاص، بخياله وأحاسيسه، وبرؤيته لطبيعة البشر القاطنين في المكان أو المرتحلين عبره، يصهر كل ذلك في نصّ واحد، تصبح الأمكنة جزءا من ذاكرة شخصيات العمل، حتى تتحول إلى واحد من أبطال الرواية، ففي رواية "الشمبر"، يقول: "من عتبة هذا البيت، من هنا يبدأ وادي الأقحوان، من تحت المَصْبَنة وحتى نهر اليرموك، وادي مفعم بزهر الأقحوان، ففي الربيع يكون مرشوما على مدّ النظر.. في هذا الوادي التقت الجيوش الإسلامية القادمة من دمشق والعراق وسارت متحدة إلى فلسطين".
ويشير حمدوني الى رواية "بيضة العقرب- رواية السيرة السرطانية"، التي كتبها موسى في مرحلة علاجه من مرض السرطان، حيث بوح متدفق منفتح على الروح، سرد متدفق عميق، يأخذ أشكالا متعددة تبعاً لقوة المرض وشدته، يقول: "فتحت الباب على مصراعيه، شرعته، فابتسمت برندتي الضيقة، فتحته فاندفع صدر الصالون كاندفاع صدر عدّاء زنجي ليعبّ الهواء العليل الذي ركض نحوه ركض حبيب ينتظر اللحظة الحبية خلف الباب. شرّعته فنهضت نباتاتي من أسرّتها الفخارية والحديدية والبلاستيكية. قلت لها كلها بصوت واحد، قِـيام، صباح الخير.. يا صباح الخيرات.. ابتسمت… صباح الصبر والنور. حملت دلو الماء، والماء يكبكب من حوافه ويطرطش، ورحت أسقيها في فمها واحدة واحدة، حتى سمعت شهقة الارتواء".
يحاول موسى تقديم رواية خارجة عن المألوف، يتعدد فيها التأويل حول وكيف تتناول ما تطرح، فيبدو كروائي مسكونا بالهواجس والمقولات الفلسفية الكبرى، كما أنه لا تنطوي روايته على حكاية مركزية، بل تتوالد الحكايات منه والأغاني والقصائد والعوالم المتداخلة، فيراوح السرد عنده بين الواقعي والمتخيل.
ويذكر أن الروائي محمود عيسى محمود موسى ولد في قرية سحم الكفارات شمالي إربد، لعائلة مهجرة من قرية "إجزم" الفلسطينية، درس في مدارس إربد الحكومية، ثم ذهب إلى دمشق ودرس الصيدلة، أسس مع مجموعة من المهتمين "لجنة إحياء التراث الفلسطيني"، التي قامت بعمل مجموعة من الفعاليات المهمة، تنوعت بين الفني التشكيلي والفني الغنائي والإبداع الأدبي، وما تزال ذكرى الحفل الفني الكبير الذي أقامته اللجنة على مسرح المدرسة الشاملة في إربد حاضرة في أذهان من حضرها لفرادتها وتميزها.
ترأس فرع رابطة الكتاب الأردنيين في إربد لدورات عدة، وهو عضو في رابطة الكتاب الأردنيين، وعضو في اتحاد الكتاب العرب، وعضو في رابطة الفنانين التشكيليين ونقابة الصيادلة الأردنيين، ومثّل الأردن في عدد من الفعاليات والمؤتمرات الثقافية والفنية العربية، حول الرواية والمسرح والفن التشكيلي، وأقام معارض تشكيلية شخصية عدة، من أهمها معرض "دعوة الى الحرية" و"الصلعاء" الذي سبق إصابته بمرض السرطان، وشارك في عدد من المعارض التشكيلية العربية والمحلية الجماعية.
صدر له العديد من المؤلفات في مجال الفن التشكيلي "الفنان محمد مريش، سيرة ونقد تشكيلي"، وفي المسرح صدر له "هاملت المُعاكس، قراءات في المسرح"، وفي مجال الرواية صدر له "حنتش بنتش"، "أسطورة ليلو وحتّن"، "مكاتيب النارنج"، "بيضة العقرب/ السيرة السرطانية"، "الشمبر"، و"حبيبتي السلحفاة".