المستبد العادل: الصين نموذجاً

حتى لو كان مفهوم "المستبد العادل" بحسب ما نستعمله في لغتنا اليوم، يختلف عن ذاك الذي كان مقصوداً في تراثنا العربي والإسلامي، وفي التراث الشرقي عموماً، كما يؤكد محمد عابد الجابري، إذ كان يُقصد به الحزم، لا الطغيان والظلم، فإن الاستبداد يظل في كل الأحوال نقيضاً للمفهوم الغربي للديمقراطية، وبديلاً لها. فالاستبداد، حتى لو كان عادلاً، لا يتيح فرصة المشاركة في القرار لجميع الناس، كما تفعل الديمقراطية الغربية، بل يحصره في يد الحاكم، والنخبة التي يشاورها.

اضافة اعلان

لم يجد الذين طالبوا بالاستبداد العادل، كحل من أجل تحقيق النهضة، يوماً، عيباً في حصر المشاركة والمشاورة في يد "نخبة" دون سائر "الجماهير". معتقدين أن الناس لا يختارون الشخص الأفضل، والقرار الأفضل، بالضرورة، ما يعني أن إشراكهم في كل قرار سيعطل فرص النهضة، وبذلك يصير حصر الخيار والقرار بيد "أصحاب الرأي"، لازماً وواجباً. وهذا المعنى هو ما يمكن استقصاؤه من كل الطروحات المطالبة بـ"الاستبداد العادل"، منذ أُعيد طرح هذا المفهوم في ثقافتنا قبل نحو قرن من الزمان، فكل مناهضة لفكرة الديمقراطية، بدعوى أنها تتيح حرية القرار لكل من "هبّ ودبّ!"، إنما تُطالب ضمنياً بالاستبداد العادل، من دون أن تصرّح بذلك علناً، متخفية في معظم الأحيان تحت مصطلحات تُستقى من المفاهيم الإسلامية، مثل "الشورى".

نحن إذاً، أمام طرحين من أجل "النهضة": الديمقراطية الكاملة، والاستبداد العادل، الذي هو بشكل أو بآخر، ديمقراطية لنخبة بعينها يختارها الحاكم المستبد، العادل. فأيهما نختار؟!

أوضحت التجارب الأكثر قرباً التي عايشناها في مجتمعاتنا العربية، كم أن "الجماهير" غارقة في تفاصيل حياتها الصغيرة، إلى درجة يسهل معها انقيادها لمن لا يملكون فهماً استراتيجياً لمصالح الأمة، إذا ما كانوا قادرين فقط على تحقيق مصالح آنية وفردية وثانوية. "الجماهير" غير المؤهلة لا تنفعها الديمقراطية بمعناها الكلاسيكي، بل تعيقها، وهذه حقيقة جلية لكل ذي بصيرة، فالوعي يجب أن يكون سابقاً على الديمقراطية، ولا نفع منها بدونه.

هذا كله ما أثبتته تجربة شرقية ليست بعيدة عن عالمنا العربي، بالمعنى الحضاري، هي تجربة النهضة الصينية المعاصرة. الصين، بالطبع، ليست "دولة ديمقراطية" بالمقاييس الغربية، لكن غياب هذه الديمقراطية الغربية لم يُعق نهضتها، لا بل يمكن القول إن ذلك الغياب هو الذي مكّن من إنجاز النهضة الصينية، في أقل من ثلاثين سنة، لأنه خوّل القيادة الصينية المخلصة، استخدام الاستبداد، بمعنى الحزم، في إيقاظ الأمة الصينية، ووضعها على سكة العمل الدؤوب من أجل ازدهار الدولة ونهضة الأمة.

لقد مارست القيادة الصينية، منذ انتهاء الثورة الثقافية العام 1976، التي يُنظر لها باعتبارها نوعا من الاستبداد المطلق غير العادل، استبدادها العادل تجاه شعبها، بالمعنى الشرقي للكلمة، الذي يشير إلى حاكم غير متردد، يعمل على تعبئة الأمة من أجل إنجاز أهدافها الكبرى، كالنهضة والوحدة، في الوقت الذي يحرص فيه على "إنزال الناس منازلهم" وتحقيق العدل بينهم، فيستمد شرعية استبداده من إنجازه الأهداف الكبرى، وحفظ مصالح الناس الخاصة والآنية. وقد نجحت القيادة الصينية، فأنجزت نهضة بلادها وتقدم مجتمعها، بينما هي ما تزال تحافظ على نهج الديمقراطية النخبوية غير المتاحة للعامة، كما تأكّد قبل أسابيع حين أعاد مجلس الشعب الصيني انتخاب هو جينتاو رئيساً للجمهورية، وكما يتأكد دائماً من الرقابة التي تطال المسؤولين الصينيين، فتحول دون إغراق البلاد في الفساد. فهل في شرعية الرئيس الصيني أي شك، حتى لو لم يتمكن عامة الصينيين من قول كلمتهم في شأن اختياره رئيساً؟

وهنا، بالطبع، لا بد من الإشارة إلى الاتهامات الغربية للصين بعدم احترام حقوق الإنسان، بما في ذلك ما حدث في التيبت مؤخراً، فالاتهامات الغربية تحاول أن توحي بطغيان النخبة الصينية التي تقود الدولة، وافتقادها للعدل. فهل مشكلة القيادة الصينية بالنسبة للغرب، يا تُرى، أنها مستبدة لم تحقق العدل، أم أنها مستبدة حققت النهضة؟!

منذ انتشرت في العالم العربي مطالبات الوحدة والحرية، في الربع الثاني من القرن العشرين، والقادة السياسيون يستمدون أفكارهم من التجارب الغربية، التي نجحت في مجتمعات ليست كمجتمعاتنا، وبهذا فشلنا في تحقيق أي تقدم، وبقينا نعيش في استبداد مطلق، لا يملك رؤية تتجاوز مجرد الحفاظ على المناصب. أفلم يحن الوقت للنظر شرقاً، والاعتبار من تجارب نجحت في مجتمعات لا تختلف كثيراً عن مجتمعاتنا؟!

[email protected]