عودة المسألة الأيرلندية

كريس باتِن*

لندن- قبل ما يقرب من عشرين عاماً، وبعد أشهر من المفاوضات الدقيقة المضنية، وَقَّع قادة المعسكرين السياسيين الرئيسيين في أيرلندا الشمالية -القوميون والجمهوريون الكاثوليك من جانب؛ والنقابيون البروتستانت من الجانب الآخر-اتفاق "جمعة الآلام"، الذي أنهى ثلاثين عاماً من العنف وإراقة الدماء. والآن، بات الاتفاق -والعلاقة المتبادلة المحترمة والمتناغمة التي ساعد على تمكينها- تحت التهديد.اضافة اعلان
أُبرِم اتفاق جمعة الآلام بوساطة من رئيس وزراء المملكة المتحدة توني بلير ورئيس وزراء جمهورية أيرلندا بيرتي أهيرن، وبمساعدة السيناتور الأميركي جورج ميتشيل. (كما قام جون ميجور، سلف توني بلير، بقدر كبير من الأعمال التمهيدية). وكان الاتفاق مستنداً إلى اقتراح أنه ما دام الجميع متفقين على أن أي تغيير للوضع الدستوري لأيرلندا الشمالية من غير الممكن أن يتأتى إلا كنتيجة للاختيار الديمقراطي الحر، فإن بوسع الناس أن يؤكدوا ولاءهم لهويتهم المفضلة: البريطانية، أو الأيرلندية، أو حتى كليهما.
ولدعم السلام، أنشأ الاتفاق حكومة تتقاسم السلطة في أيرلندا الشمالية، وتتألف من ممثلين لجانبي النزاع. كما أسس اللجنة المستقلة المعنية بمراقبة الأمن في أيرلندا لشمالية، والتي توليت رئاستها شخصياً، لإصلاح جهاز الشرطة. وساعدت الجهود التي بذلناها على الحد من الهجمات على قوات الشرطة من خلال جعلها مقبولة لجميع الفئات، كما أدت إلى زيادة كبيرة في توظيف الكاثوليك، بين أمور أخرى.
بمجرد توقيع الاتفاق، أصبح الانتقال أسهل على نحو لا يضاهى بفضل وضع كل من بريطانيا وأيرلندا كعضوين في الاتحاد الأوروبي. وهكذا، أصبحت الحدود بين البلدين لا تزيد إلا قليلا على خط على خريطة: فلم تكن على الحدود أي حواجز، أو مراكز جمركية، أو أي رموز تقسيم أخرى ربما توضح أين ينتهي بلد واحد ويبدأ الآخر. وبات بوسع التجارة والبشر الانتقال بحرية بينهما.
عمل وضع البلدين كشريكين أوروبيين -منذ أصبحت أيرلندا عضواً في الجماعات الأوروبية في العام 1973- ولفترة طويلة على تعزيز الروابط بين المملكة المتحدة وأيرلندا. ومن المؤكد أن التاريخ العنيف بين البلدين، والذي شمل الغزو والاستعمار والتمرد والمجاعة، خلف عداءً عميق الجذور. لكنهما رغم ذلك يرتبطان بشكل وثيق بحكم شراكتهما الأوروبية، ناهيك عن جوارهما في الأرخبيل الواقع قبالة الساحل الغربي لأوروبا. وينحدر أكثر من خمسة ملايين شخص في إنجلترا وويلز واسكتلندا من جد أيرلندي واحد على الأقل. وإذا رجعنا إلى الوراء جيلا آخر فسوف يرتفع هذا الرقم بشكل ملحوظ.
على مدار العقدين الماضيين، استمتعت كل من المملكة المتحدة وأيرلندا بثمار علاقة محترمة وسلمية متبادلة. ومن المؤكد أن البريطانيين يرون الكثير مما يثير إعجابهم في أيرلندا اليوم: نموها الاقتصادي، ونهضتها الثقافية في الأدب والموسيقى، وجاذبيتها في نظر المهاجرين من مختلف أنحاء العالَم، والذين يشكلون الآن نحو 17 % من سكان البلاد. وفي نضوج غير عادي، تخلت أيرلندا عن الكهنوتية الضيقة، وأصبحت دولة حديثة وسخية.
ولكن الآن نشأت تحديات خطيرة. ففي أيرلندا الشمالية، انهارت حكومة تقاسم السلطة، ولم تعد حكومة المملكة المتحدة في موقف قوي يسمح لها بالمساعدة على استعادة التعاون البنّاء. ففي محاولة لتأمين أغلبية عاملة في مجلس العموم بعد الانتخابات المبكرة في العام المنصرم، عقد المحافظون بقيادة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي اتفاقاً مع الحزب الاتحادي الديمقراطي في أيرلندا، والذي تمتد جذوره إلى التقاليد النقابوية المتطرفة. ونتيجة لهذا، تبدو حكومة المملكة المتحدة عاجزة عن العمل كوسيط عادل.
وتعمل مفاوضات الخروج البريطاني الجارية الآن على زيادة الأمور تعقيداً؛ حيث يبدو أن لا أحد يعرف كيف يتعامل مع العواقب التي قد تؤثر على أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، والتي ستقسمها حدود المملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي. وفي حين يقول العديد من الساسة إنهم يريدون حدودا بلا احتكاكات، ناقشت تيريزا ماي وبعض زملائها الانسحاب من كل من السوق الموحدة والاتحاد الجمركي، وبالتالي وضع المملكة المتحدة خارج المنطقة المعفاة من الرسم الجمركية حيث يجري تسهيل التجارة من خلال ضوابط تنظيمية مشتركة. وهم يؤكدون أن أيرلندا الشمالية ستضطر إلى الخضوع للقواعد التجارية نفسها التي تخضع لها بقية المملكة المتحدة.
ويجعلنا هذا في مواجهة احتمالين: فإما النظام التجاري المتحرر من الاحتكاكات والذي يعمل في مختلف أنحاء الجزر البريطانية، أو الحدود الصارمة عبر أيرلندا. الواقع أن دول الاتحاد الأوروبي الأخرى لن تسمح لإنجلترا واسكتلندا وويلز فقط بالانسحاب من السوق الموحدة والاتحاد الجمركي، في حين تترك أيرلندا الشمالية. وهذا من شأنه أن يجعل من السهل للغاية تجنب الضوابط التنظيمية، مثل قواعد المنشأ؛ حيث تصدر دولة من خارج الاتحاد الأوروبي السلع إلى أيرلندا للشحن إلى المملكة المتحدة، أو العكس. وتنشأ مشاكل مماثلة عندما يتعلق الأمر بحرية تنقل البشر داخل الاتحاد الأوروبي -وهي القاعدة التي لا ترغب المملكة المتحدة في الخضوع لها.
لا ينبغي لأي من هذه التحديات أن تكون مفاجئة. فقد ظلت التحذيرات تتوالى قبل فترة طويلة؛ فتجاهلتها الحكومة البريطانية ببساطة. وتظل الحلول المحتملة لغزا كبيرا، لكن السلطات سوف تضطر إلى مواجهة هذه المسألة عاجلا أو آجلا.
من المؤكد أننا لن نجد حلا تكنولوجيا سهلا. فأي نظام من الضوابط والتوازنات سوف ينطوي حتما على شكل ما من أشكال السيطرة المادية. ومن المحتم أن يصبح موظفو الجمارك المكلفون بتنفيذ هذه الضوابط والتوازنات رمزاً للانقسام، بل وربما حتى استفزاز عنف المتطرفين الجمهوريين، كما حدث في الماضي. ولن يتطلب الأمر سوى هجوم واحد يدفع الحكومة إلى تعزيز الأمن وتعميق الانقسامات وتحريض المزيد من العنف.
إن العودة إلى الحدود الصارمة في أيرلندا ستكون مدمرة، لأنها قد تقوض اتفاق جمعة الآلام. ولا يملك المرء إلا أن يأمل أن يتمكن القادة الأيرلنديون من إقناع الساسة في المملكة المتحدة بهذه الحقيقة، وفتح الطريق أمام حل لا يهدد ما حققته أيرلندا من سلام وازدهار بشق الأنفس.

*آخر حاكم بريطاني لهونغ كونغ ومفوض الأمم المتحدة الأسبق للشؤون الخارجية. وهو الآن مستشار لجامعة أوكسفورد.
*خاص بـ"الغد"، بالتعاون مع "بروجيكت سنديكيت".