أين ذهبت تلك الباصات؟

يستطيع الولد الذي “ينطنط” في الحارة بجبل الجوفة في عمان العاصمة إبان السبعينيات، استعادة بضعة من أيام صافية في  حياة مدينته التي حملته على أكتافها، وهو في حجر أمه بعد النزحة من عين السلطان في أريحا، ليلامس شغفه الكبير لاسترداد لحظات من تلك الأيام، على ما فيها من شظف عيش ومعاناة مريرة، لم تكن تنقصه وحده أو تنقص عائلته، بل كانت عامة، يعيشها الكثير من أهالي الحي، المعلق في سقف المدينة المسكونة بجنون انعتاقها من الماضي. اضافة اعلان
لم يكن عليّ أن أتأمل التحولات التي تجري في تلك الحقبة، وكيف تبدو الحياة بكل عفويتها، فالناس كانوا أكثر بساطة من أن يعلنوا تعبهم، وأكثر احتراما لذواتهم في المعاملات والمواقف والتدابير، وكاسة الشاي أمام مصطبة الجار، مع أحاديث المساء المنهملة من الأفواه، تكفي للاسترخاء طويلا، واتقاء الهموم لعمر.
حين كان أحد الجيران يرغب ببناء غرفة في حوش منزله لكي يوسع على عائلته، أو ليزوج واحدا من أبنائه، كان أهل الحي يجتمعون لمعاونته، ويأكلون ويشربون مما تيسر، ويضحكون ويغنون، حتى مطلع الفجر.
كانت النساء بملابسهن التقليدية أخوات وأمهات، ينظرن للجميع على أنهم أبناء أو أهل، حتى لو كانوا من طرف الكون، فالكل سواسية في الحي، والناس لبعضها، وراس البصل أو رغيف الخبز أو حفنة الأرز، يمكن اقتراضها من بيت أي جار، ليعود ماعونها مملتئا بالحلوى أو الطعام إلى من بيت من أقرض.
حياة تبدو شبه شهية اليوم، يمكن مشاهدتها في فيلم وثائقي، أو في متحف الحياة الشعبية، ونحن نخرج من أبواب شققنا المفلترة بالترقب والخوف والوحشة، فالناس لم تعد تعرف بعضها، وصاحب العرس لا يوزع الشاي والعصير والسجائر على المعازيم، فهناك صالات وجراسنة يقومون بالمهمة البلاستكية، وشباب الحي، لا يمضون أسبوعا في عقد حلقات الدبكة والدحية. فقط، ساعة أو ساعتين في صالة مكيفة يجلس فيها رجال متذمرون، منفصلين عن نسائهم اللواتي يرقصن على”دي جي” سخيف في قاعة مجاورة، دون أن يكون للعرس طعم او لون او نكهة.
حياة بلاستيكية، جعلت لون العيش مكفهرا، ولم تعد مقاهي منطقة المحطة، تجمع الخفير والوزير على مقاعدها، فقد فصلت المدينة التي جمعت كل أطياف البشر في بوتقتها، ولم نعد أبناء تسعة. صرنا أبناء عمان الغربية وعمان الشرقية، وخلعت النساء زيهن التقليدي الجميل، ليرتدين ما أنعمت عليه بهن ماركات باريس وروما ونيويورك.
الولد الآن، يتمنى رؤية سيدة ترتدي ثوبا مطرزا أو مدرقة، وصار يركب سيارة، ترهقه بين حين وآخر بتصليحها بعد أن كانت باصات “الجغل” و”الجغبير” مركباته المفضلة.
صحيح أين ذهبت تلك الباصات؟