"التنمية المجتمعية" من خلال البلديات

ما لم تقترن التنمية المادية بالتنمية الإنسانية، لن يكون معقولاً نجاح أي من البلدان في إنجاز النهوض والتنمية المستدامة. ذلك أن النهوض العمراني من دون نهوض قيمي يوازيه، لدى الإنسان، يعني أن النهوض تحقق شكلياً لا جوهرياً. المشهد ساعتها يكون شبيهاً بقيام رجل يركب سيارة دفع رباعي فارهة، برمي علبة عصير بلاستيكية فارغة من شباك سيارته إلى الشارع العام: منظر فاره وسلوك متخلف!اضافة اعلان
وما دام سلوك رمي المخلفات من شبابيك السيارات الفارهة شائعاً في بلدنا، فهذا يعني أن نفراً منّا ما يزال من دون التنمية القيمية، حتى لو شارك وحقق التنمية المادية بأشكالها الاقتصادية والتعليمية والعمرانية. لعلنا، إذن، أنجزنا تنمية مادية معقولة، وإن لم نكن دولة غنية، لكننا لم نخطط جيداً -رغم تاريخنا التعليمي والتربوي- للتنمية الإنسانية بمعناها القيمي، مقارنة على سبيل المثال بما يلمسه الزائر لدول عربية بات تطورها العمراني يترافق مع تطور قيمي وسلوكي ملحوظ لدى الناس فيها، يشمل احترام القانون والنظام العام والتنوع داخل المجتمع.
المسألة ليست رفاهاً إذن. ثمة حاجة ملحة للتنمية الإنسانية والمجتمعية، تتوافق مع التنمية المادية، بل يمكن القول إنها تحميها. إذ لا ضمانات لتنمية مادية ناجعة، ما دام المستفيد منها يرمي قمامته من شباك سيارته. لكن القضية هنا أن الجهود الفردية لا تكفي!
أما الجهود الجماعية، فليست متحققة بما يكفي الآن. ما يمكن الاطمئنان إليه، أن ثمة وعياً جماعياً متزايداً حول ضرورة جمع التنمية الإنسانية مع التنمية المادية. الحمد لله، مضى زمن كانت فيه المناداة بإيلاء الاهتمام للتنمية المجتمعية، بمثابة "صوت في البريّة"!
كمؤسسات للحكم المحلي، تظل البلديات الجهة الأكثر فاعلية في الجمع بين هاتين التنميتين، لاحتكاكها المباشر بالناس، وكونها هيئات أهلية تمثلهم وتخدمهم؛ وإن كانت معظم البلديات في بلدنا ما تزال تحصر دورها في الجانب المادي: البيئي والرقابي والتنظيمي. لكن الجديد في هذا السياق أن أمانة عمّان أطلقت، قبل أيام، اسماً جديداً ومعبّراً على قطاعها المعني بالخدمات الإنسانية، بأبعاده الاجتماعية والثقافية والرياضية، وما يتصل بها من مرافق، هو: "قطاع التنمية المجتمعية". وفي ذلك إدراك متجدد بأن الخدمات البلدية في المجال الإنساني ليست مطلوبة للدعاية أو الترفيه، بل للتنمية، ولا شيء غير التنمية، وهي حال من الجيد أن تمتد إلى باقي البلديات.
لا شيء غير التنمية، من بين الاستخدامات الشائعة التالية للخدمات الإنسانية:
1 - الاستخدام الرعائي: يقوم على رعاية المشتغلين بالعمل الاجتماعي والثقافي والرياضي، والمبدعين فيه، بشكل فردي، ودعمهم مالياً، لكن من دون قياس أثر منتجهم على المجتمع من حيث تنمية القيم وتحسين الذائقة العامة.
2 - الاستخدام الدعائي: يهتم بتكريس الواقع القائم أياً كان، في بعده الاجتماعي، ولا يعترف بأي حاجة للتطوير، ما قد يحوّل الخدمات الإنسانية ميداناً لتنفيع المحاسيب، أو لتكسّب الأدعياء.
3 - الاستخدام الترفيهي: يتعاطى مع الخدمات الإنسانية باعتبارها مجالاً للترويح عن النفوس وإعدادها للانخراط في العمل "الجاد" الذي لا يكون إلا في الميادين الأخرى! الخدمات الإنسانية بهذا المعنى هي زينة إضافية تكمل مشاهد العمل، وليس ثمة ضير من غيابها في أي مرحلة!
4 - الاستخدام التنموي: يفهم الخدمات الإنسانية على أنها سعي لتطوير مجموعة القيم التي توجه سلوك المجتمع وخياراته. لذلك، يركز جهوده في تنميتها بحيث تلبي حاجات الدولة الحديثة ومفاهيمها، وعلى رأسها مبادئ احترام النظام العام والقانون والعمل المؤسسي والتنوع داخل المجتمع.
لقد أتعبتنا الاستخدامات الثلاثة الأولى، وبات علينا أن نركزّ على الاستخدام الرابع؛ التنموي، ليكون الاستخدام الوحيد الموضوع في التطبيق، لكن بجهود جماعية ومؤسسية، لا فردية متفرقة.