خطاب الاصلاح ومنطق الازمات


من المعقول أن يولد خطاب الإصلاح والدعوة الى التغيير من رحم الأزمات ومن واقع العجز وافتقاد الثقة بأدوات إدارة الدولة والمجتمع في الوفاء لاحتياجات الواقع؛ إلا انه من ابسط معايير الإصلاح وقيمه أن لا يولد خطاب الإصلاح مأزوما مفتقدا المنهج والأدوات .

اضافة اعلان


مع الدخول الى القرن الحادي والعشرين وازدحام مشاريع الإصلاح السياسي والاقتصادي والثقافي على حدود العالم العربي، يستمر الوعي العربي المعبر عنه بالخطاب الفكري رهين منطق الأزمات، وكأن ذهينة التأزم الدائم هي بمثابة حبل السّرة التي تمد هذا الخطاب بالحياة. فهو وعي مأزوم يعبر عن واقع تاريخي تعصف به الأزمات من كل جهة, ولكن هذا لا يبرر انتقال عدوى الأزمة الى خطاب الإصلاح ذاته.


تجاوبت الأزمة كما التصقت في التاريخية العربية الحاضرة مع نظام الخيبة والشعور بالفوات والتأخر، فكل أنواع الاستجابات التي كانت تقدم لطي الأزمة وإغلاق  ملفها (استجابات القطيعة او التجاوز او القفزة او الإزاحة) كانت تنتهي دائماً بالخيبة وبالانفراج في أزمة جديدة، متواليات الأزمات في الواقع والخطاب تظهر في هذه الأثناء ونحن نعاني صداع خطاب الإصلاح في مركب معقد من التشويه والارتهان والتغريب والنفي والاستلاب والقهر الحضاري والاختراق والاحتلالات الجاثمة، وبمعنى آخر فان محصلة منطق الأزمات تضع العرب أمام الدعوة للإصلاح وهم بعد لم يكتشفوا زمانهم التاريخي أي انهم لم يدخلوا عملية تغيير وبناء هادفة ذات نتائج ودلالات.


ويمثل هذا الواقع النموذج الواضح للمجتمع المهدد العاجز عن إنتاج تاريخه بذاته، ضمن علاقات الارتهان والاستلاب التي حصدتها الثقافة المهددة وذلك منذ اكثر من قرن ونصف دون أن تستطيع تقديم أجوبة تاريخية ومقنعة حول عمى المسيرة؛ أي عدم القدرة على الولوج الى معطيات الزمان التاريخي، بل أنها استمرت في إنتاج الأسئلة الخاطئة والمغلقة، والإجابات المركبة والمشوهة التي ساهمت مع جملة أخرى من المعطيات في التشويه الفضيع الذي لحق بإمكانيات وطاقات التغيير، وتعطيل المبادرات والارخاص من قيمتها إمعانا في استمرار نظام الخيبة فاستمرار الأزمة فاستمرار الأسئلة المأزومة، فاستمرارية الخطاب المأزوم فاستمرارية الثقافة المهددة , ثم المجتمع المهدد ومن هذا الأخير يبدأ التدوير ويستمر.


إن تراكم فعل الخيبة في مواجهة الأزمة يضعف آلية الاستمرار في المواجهة، حتى يلجأ التكوين الاجتماعي لإفراز آلياته الجديدة في التصدي، وهنا تظهر بوادر السيطرة الخرافية على الواقع،  وهي التي تشكل آخر خنادق الصمود، حيث تتراجع الآليات المادية في مواجهة الصراع وهي الآليات التي أنهكت من التجريب وفقدت الثقة بها بفعل تراكم الخيبات، لتحل مكانها الآليات الغيبية من خلال توسل الأوهام والإيمان بالحسم المصيري لازمة الذات التاريخية، حينما ترجع الأزمة وحسمها المصيري إلى مصادر غيبية لا يمكن مناقشتها ولا يمكن إخضاعها لقوانين الوعي، لذا فالمجتمع المهدد يلجأ  في نهايات تراكم الخيبات الى اختراع شكل من أشكال الزمان الوجودي المؤقت الذي يوفر التوازن والاستمرار عوضا عن غياب الزمان التاريخي. ولكن، ما مدى التمثل داخل أطر الموضوعية التاريخية لفكر ينمو في أكناف الأزمات وتحت وطأة الأعاصير، إن سباق الخيبات الذي ساد وما زال يسود كان مشروطا دائما بسياق التفتت والانقسام على الذات، وبعد أن وقف الوعي العربي على بوابة الهوة الواسعة والمفرغة في ضوء الانهيارات القاسية للقناعات الأولى في القومية والليبرالية والاشتراكية والماركسية والسلفية

نجد الوعي نفسه أمام بقايا حطام فسيفساء أشكال الانقسام السابقة في ثقافات التغريب البائس والأشكال الرثة لثقافات محلية اجهاضية وطارئة، بالتزامن مع نمو أنماط التفكير الغيبي الرخيص البعيد عن جوهر الإسلام وغياب الفكر النقدي الذي يتطلب تكوين رؤيـة نقديـة شاملـة للمجتمع والدولـة والثقافـة والنظرة إلى الآخرين منذ أكثر من عقد ومع ازدياد منحدر التراجع وانهيار النظام الإقليمي العربي وتحطم أسطورة الأمن القومي ازداد ارتفاع الحواجز بين الأقطار العربيـة وانخفاضها مع الآخرين، وكانت الردود الفكريـة متواضعـة وبائسـة وخجولـة تسعى نحو تفسير مبسط للواقع الراهن في أحسن صـورها.

ولكي نؤسس لمقدمات نظرية للردود الفكرية العربية الراهنة حيال خطاب الإصلاح الوافد، لا بد من الإمساك بخيوط وأطراف علاقة الوعي بالتاريخ أي حدود اكتشاف الذات والموقع من التاريخ والجغرافيا والسياسة والثقافة؛ بكلمات أخرى تنمية الإحساس والشعور بالذات داخل حركة الزمن، وهذا يعني تفكيك منطق الأزمات الأب الروحي للخطاب العربي المعاصر حيث نرصد الملامح الآتية:-

- منطق الأزمات، منطق لا تاريخي قوامه الدائم جعل الماضي حاضرا، حتى في أدق تفاصيله الرافضة للأزمنة الأخرى، إن الأزمة دوما تحيله الى البديل الأسهل دون الالتفات الى تاريخية الحدث وابعاده الأفقية.

- منطق الأزمات، منطق سلبي هروبي ويبحث دوما عن حلول الآخرين، إما في أزمنة الذات الأخرى أي الماضي او في أزمنة الآخرين الحاضرة، وهذا المنطق الحلولي يبدو انه محاولة للتحصن بأعماق الذات وهي الحالة التي تتحول الى قناع يكمن خلفه الانصهار في مشاريع الآخرين والتخلي المباشر عن أطر الممكنات التاريخية.

- منطق الأزمات، منطق الحسم التاريخي الأحادي ، وهذا يعني أن الخطاب الذي يواجه الأزمة عادة ما يكون مأزوما، واكثر ما تبدو أزمته في البديل المأزوم الذي يطرحه، وعادة ما يظهر البديل على شكل حسم أحادي للتاريخ.

وهكذا، ينهض خطاب الإصلاح اليوم بالتزامن مع ثقل منطق الأزمات وتشابكه، وتعاد الكرة ذاتها، النظرة الأحادية للتاريخ والتغيير والنهضة والتقدم، فما زالت الوصفات الأحادية الجاهزة هي الرد المباشر والمهيمن على سؤال التقدم وهو الواقع الذي أهدر في كل مرحلة جانبا من الزمان الحضاري فيما كان يعزى الحسم المصيري الى جهة واحدة ونحو هدف واحد وتغلق الأبواب والنوافذ أمام المسارات والدروب الأخرى.

إن خطاب الإصلاح الراهن وهو قيد التشكل حاليا، لن يوفر للمجتمعات العربية الوعي الحقيقي بقيمة الإصلاح وضرورته المصيرية إذ بقي مرتهنا لمنطق الأزمات الذي يعني النظرة الأحادية، دونما إدراك حقيقة منهج تعدد الأسس داخل خطاب الإصلاح وحوله أيضا. بمعنى اخر إدراك احد أهم دروس التغيير في التاريخ التي تؤكد قيمة التراكم وتنوع مصادر هذا التراكم , ثم منحه الحق في المرور بعملية تاريخية حقيقية .          
[email protected]