خطط المملكة المتحدة للاحتفال بكارثة وعد بلفور

لاجئ فلسطيني بمخيم في العاصمة السورية دمشق بعيد نكبة 1948 - (أرشيفية)
لاجئ فلسطيني بمخيم في العاصمة السورية دمشق بعيد نكبة 1948 - (أرشيفية)

لورنس دافيدسون* - (كونسورتيوم نيوز) 14/3/2017

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

قبل قرن من الآن، أسس وعد بلفور البريطاني كارثة الحقوق الإنسانية المتمثلة في الصراع الإسرائيلي-الفسطيني، ولكن الساسة البريطانيين يخططون -لأسباب انتهازية- للاحتفاء به باعتبار أنه شكل نجاحاً عبقرياً.اضافة اعلان
*   *    *
أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية، تريزا ماي، أن بريطانيا ستحتفل بالذكرى المئوية لوعد بلفور في وقت لاحق من هذا العام. وكانت زعيمة حزب المحافظين تخاطب فصيل "أصدقاء إسرائيل" في حزبها، وأعلنت أن وعد بلفور كان "من أكثر الرسائل أهمية في التاريخ"، بينما تعهدت بأن تحتفل حكومتها به "بكل فخر".
يشير تصميم تريزا ماي على الاحتفال بمئوية بلفور بوضوح إلى أن أولئك الذين يسيطرون على السياسة الوطنية، يسيطرون أيضاً على التفسير الرسمي للتاريخ. وفي حالة مرور مائة عام على وعد بلفور، فإن ذلك التحالف المستمر بين المصالح الصهيونية الخاصة وبين السلطة السياسية في بريطانيا، هو الذي يوشك على تحويل ما شكل كارثة على البريطانيين واليهود والفلسطينيين على حد سواء، إلى مصدر للفخر الوطني.
كنتُ قد رويت قصة وعد بلفور بتفاصيل موثقة في كتابي "فلسطين أميركا". وفيما يلي موجز مقتضب لما ورد في أطروحته:
كان إعلان تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1917 إحدى وسائل الحرب العالمية الأولى، والتي استخدمتها الحكومة البريطانية من أجل حشد المساعدة من يهود العالم (الذين اعتُقِد خطأ بأنهم يعملون جميعاً تحت قيادة المنظمة الصهيونية العالمية الوليدة)، لصالح الجانب البريطاني من الحرب. وفي المقابل، وعدت الحكومة البريطانية بإقامة "وطن قومي لليهود"، في شبه الجزيرة العربية بعد الحرب. وبفعلها ذلك، سعت بريطانيا إلى شراء مساعدة اليهود بعملة طرف آخر -بمعنى، منح أرض كانت تعود في ذلك الحين إلى الإمبراطورية العثمانية.
كان أعضاء رئيسيون في وزارة الحرب في لندن، مثل وزير الخارجية آرثر بلفور، مؤمنين بأسطورة قوة اليهود ونفوذهم في كل أنحاء العالم، وعلى ذلك الأساس، كانوا مقتنعين بأن النفوذ اليهودي في واشنطن يمكن أن يساعد على جلب الولايات المتحدة إلى الحرب كحليف لبريطانيا، بينما يقوم في الوقت نفسه بمنع حلفائهم على الجبهة الشرقية، الروس، من مغادرة الحرب. ومع أن الولايات المتحدة دخلت الحرب بعد فترة وجيزة فعلاً، فإن ذلك التدخل لم تكن له أي صلة بنفوذ اليهود، كما أن الروس، الذين أصبحوا في ذلك الوقت تحت قيادة البلاشفة، مضوا إلى إبرام سلام منفصل مع الألمان.
في نهاية الحرب العالمية الأولى، انهارت الإمبراطورية العثمانية، ووجدت بريطانيا نفسها في موقف السيطرة العسكرية على فلسطين. وعندئذٍ، ذهبت الحكومة في لندن إلى متابعة الوفاء بوعدها للصهاينة. وفعلت ذلك من خلال السماح بهجرة جماعية ليهود أوروبا إلى فلسطين. وعند هذه النقطة، كانت السياسة مدفوعة بمزيج من المعتقدات الدينية والعنصرية، إلى جانب الطموحات الإمبريالية.
أولاً، هناك حقيقة أنه كان يُنظر إلى اليهود على أنهم حلفاء أوروبيون، والذين زُعِم أنهم سيساعدون على تأمين جزء استراتيجي من الشرق الأوسط للإمبراطورية البريطانية؛ وثانياً، كان هناك اعتقاد أسطوري ساحر بأن إنشاء وطن قومي لليهود ينسجم بشكل ما مع تحقيق نبوءة إنجيلية. وفي النهاية، لم يتمخض أي من هذا عن خير بالنسبة للبريطانيين. ففي العام 1948، تم طردهم من فلسطين على يد كل من الصهاينة العدوانيين العنيفين والوطنيين العرب. وخرج البريطانيون وهم يجرون أذيالهم بين أرجلهم.
والآن يبدو أن رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، وجماعة حزبها من "أصدقاء إسرائيل" يرفضون هذا التاريخ. أو أنهم ربما لا يهتمون بشأن الحقائق الموثَّقة، لأن كل ما يهمهم الآن هو الاحتفاظ بالدعم المالي الذي يتلقاه حزب المحافظين من اللوبي الصهيوني. ويبدو أن هذا هو حال السياسة الديمقراطية في الغرب.
كارثة في كل مكان
من الجدير تأكيد حقيقة أن تداعيات وعد بلفور كانت كارثية بكل مقياس. فقد دامت الهيمنة البريطانية 30 عاماً، وانتهت، كما ذكرتُ تواً، بانسحاب مُخزٍ غير مجيد. ومن جهة أخرى، عانى الفلسطينيون عقوداً من الحرمان والإبعاد والتطهير العرقي.
كما أن اليهود المتدينين والعلمانيين على حد سواء، المنتمين إلى دولة إسرائيل التي نجمت عن ذلك، والذين أصبحوا مقيدين رسمياً الآن بروح الصهيونية، خضعوا للإغواء وتم تحويلهم ثقافياً إلى اعتناق أيديولوجية عنصرية. واليوم، أصبحت الصهيونية واليهودية بالنسبة للعديد من اليهود وجهان لعملة واحدة. وتتمثل إحدى الطرق التي يستطيع المرء بها إثبات هذه النقطة الأخيرة في استنطاق الأيديولوجية الصهيونية. لكنه وسم في هذه الحالة بأنه معادٍ للسامية.
كيف حدث وأن مرَّ هذا الموقف؟ من المؤكد أن لتاريخ اللاسامية الأوروبية، والذي بلغ ذروته في حادثة المحرقة اليهودية، الكثير من الصلة بذلك. فقد شكلت معاداة السامية دائماً تهديداً لليهود في الغرب. ومع ذلك، كان ذلك التهديد، تقليدياً، محلياً في معظمه. بمعنى أنه حتى لو أن يهود قرية يهودية صغيرة معينة، ولنقل في جنوب روسيا، تعرضوا للذبح، فإن أولئك الموجودين في أماكن أخرى كانوا يزدهرون. وبذلك، كان الخطر حاضراً دائماً هناك، وإنما تحقق بشكل متقطع.
ولكن، عندئذٍ جاء النازيون وتغيرت أبعاد التهديد بشكل جذري. ونتيجة لذلك، حدث انهيار كامل لحياة اليهود الأوروبيين. وبالنسبة لعدد يعتد به منهم، لم تعد الاستبصارات والفلسفات القائمة على التوراة القديمة والتي تفسر العالم تكفي.
وإذن، ما الذي فعله أولئك اليهود الغربيون الذين تمكنوا من النجاة في مثل هذه الظروف؟ كان نظامهم الاجتماعي المعتاد قد ذهب. وأصبحوا منجرفين على غير هدى في عالم بدا غير منطقي وبلا معنى، إلا عندما يتعلق الأمر بخطره المميت. وفي ظل ظروف من هذا النوع، استطاعت فكرة واحدة قابلة للتطبيق، والتي بدت منطقية تاريخياً، أن تعمل بمثابة طوق للنجاة. كانت تلك الفكرة هي الصهيونية.
بدت الصهيونية منطقية تاريخياً لأنها مزجت بين النجاح التاريخي للدولة-الأمة، التي كانت بعد كل شيء نظاماً سياسياً مهيمناً في ذلك العصر، وبين الأسطورة التوراتية التي عقلنت فكرة قيام "دولة يهودية" في أرض فلسطين العربية. وبالنسبة لكل من الناجين من الهولوكوست وأولئك اليهود الذين شاهدوا دمار أقرانهم الأوروبيين من بعيد (أي، من أماكن مثل الولايات المتحدة)، لا بد أن تكون الحزمة كلها قد انطوت على منطق داخلي بدا مريحاً بطريقة لا تمكن مقاومتها –حيث وعدت بتحقيق أمن دائم في وطن قومي يهودي.
بينما يستطيع المرء أن يفهم القوة المغوية للصهيونية، فإنها أفضت فقط، مثل كل الأيديولوجيات السياسية العنصرية أو العرقية حصراً، إلى كارثة متوقعة. والحقيقة هي أن من المستحيل خلق دولة تكون مقصورة حصرياً على شعب واحد (فلنسمهم الشعب "أ") في منطقة يقطنها مسبقاً شعبٌ آخر (فلنسمهم الشعب "ب") من دون اعتناق لسياسات عنصرية من طرف الشعب "أ"، وظهور مقاومة جديد من جانب الشعب "ب". وفي ظل مثل هذه الظروف، بالنسبة للشعب "أ"، لا يمكن أن يكون هناك أي أمن، ولا أن يكون هناك أي شيء مثل ثقافة وطنية صحيَّة.
أثبتت العملية أنها كلها برمتها مفسِدة ذاتياً لليهود الصهاينة. ومن المفارقات أن معظم الصهاينة الآن أصبحوا هم أنفسهم لاساميين. وفي هذه الحالة، أصبحت الأهداف السامية هي الفلسطينيون والعدد المتزايد من اليهود الأوروبيين الذين يتقاطرون لدعم قضيتهم.
وهكذا، تستند الخطط للاحتفال بالذكرى المئوية لوعد بلفور إلى وهم يحاول أن يتصور شيئاً مريعاً مروعاً باعتباره شيئاً فخوراً حقاً. والطريقة الوحيدة التي تمكن المرء من جعل هذا يحدث هو أن تكون لديه القدرة على تحريف وتشويه فصل تاريخي كامل إلى شيء آخر ليس هو على الإطلاق -وهذا هو ما تخطط تيريزا ماي لفعله.

*أستاذ التاريخ في جامعة ويست تشيستر في بنسلفانيا. وهو مؤلف "مؤسسة السياسة الخارجية: خصخصة المصلحة القومية الأميركية"؛ و"فلسطين أميركا: التصورات الشعبية والرسمية من بلفور وحتى تأسيس دولة إسرائيل"؛ "الأصولية الإسلامية".
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Celebrating the Balfour Disaster