سيناء.. القلق مشروع والهلع ممنوع

فيما كانت الملايين تملأ ميادين القاهرة وشوارعها، قبل نحو عامين، احتجاجاً على استفحال مظاهر الإقصاء، ورفضا للاستحواذ و"الأخونة"، سئل القيادي البارز في جماعة الإخوان المسلمين عصام العريان، عن تقديره لمآلات ذلك المشهد الجماهيري غير المسبوق. فقال وهو يبتسم، إن المعتصمين سوف يتفرقون من تلقاء نفسهم بعد منتصف الليل، وسيعود الموظفون إلى أعمالهم في الصباح، فيما سيستأنف الرئيس محمد مرسي مهامه في قصر الاتحادية عند التاسعة صباحاً، وكل شيء سيكون غداً على ما يرام.اضافة اعلان
لم تلق الجماعة الحاكمة في مصر بالاً لأصوات المتظاهرين المطالبين قيادة الجيش بالتدخل. ويبدو أنه لم تساور ذهنها الشكوك، بما فيه الكفاية، إزاء احتمال انحياز الجيش، مرة أخرى، للداعين إلى التغيير في سدة الحكم، الأمر الذي شكّل صدمة عنيفة لهؤلاء المراهنين على خشية الجيش من عواقب الاصطدام بقواعد الجماعة، عندما قام وزير الدفاع في حينه، بعزل مرسي، وإيداعه مع مكتب الإرشاد في السجون الحصينة.
بكلام آخر، فقد كان موقف الجيش العامل المركزي الحاسم، كالعادة، في تغيير قواعد اللعبة، وكسر حالة التوازن الهشة، وقول كلمة الفصل الأخيرة، سواء في عملية الإطاحة بحكم حسني مبارك، أو في عزل محمد مرسي، وليس تلك الاحتجاجات والاعتصامات والمظاهرات الصاخبة، ضد الرئيسين السابقين. وهو ما كان يضمره العريان في تخمينه لمآلات تلك الحشود المليونية، المقدر لها في نهاية مطاف قصير، العودة إلى روتين حياتها اليومية، عدا بعض المشاغبات المتفرقة، التي لن يكون في وسعها، وحدها، قلب الأمور على أعقابها.
وتتأكد صوابية رؤية العريان للموقف السائد في حينه، بالعودة إلى الوراء قليلاً، كي نرى أن حيادية الجيش التونسي أملت على زين العابدين بن علي الفرار من عاصمة ملكه، وأن انقسام الجيش اليمني حمل علي عبدالله صالح على التنازل عن الرئاسة، فيما أدى ولاء الجيش السوري لحكم عائلة الأسد، إلى تعثر الثورة السلمية، ومن ثم تحولها إلى تمرد مسلح، تحت ضغط حملات التقتيل والتنكيل بالمتظاهرين، المطالبين بإصلاح النظام، قبل أن يرفعوا شعار تغييره.
نستعيد كل هذه الوقائع من الذاكرة الغضة، كي نجري مراجعة أولية سريعة لمجريات الأيام الأخيرة في سيناء، ونقف على عقابيل الاصطدام بجيش كبير، قوي ومتماسك، من جانب تنظيم إرهابي يحاول إقامة أول رأس جسر له في شبه الجزيرة الصحراوية، مستفيداً من انشغال السلطة الأمنية بملاحقة مجموعات أخرى تنهل من ذات المنبع، وتسعى إلى الهدف نفسه، المتمثل في تقويض أركان الدولة، أو تحويلها إلى دولة فاشلة، أسوة بدول الجوار في كل من ليبيا واليمن والعراق وسورية.
وبغض النظر عن التفاصيل العسكرية، والضخ الإعلامي الذي واكب محاولة الجماعات الإرهابية الإمساك بمدينة الشيخ زويد، وإعلانها عاصمة للولاية، المقدر لها أن تمتد من رفح شرقاً إلى العريش غرباً، فإنه يجدر بنا التبصر ملياً في حصيلة هذه المحاولة الدموية الفاشلة، كي نرى أن مغامرة الهجوم على الجيش، وهو رأس الحربة القوية، كان عملاً انتحارياً بالكامل، وفشلاً استراتيجياً لا لبس فيه، وقع فيه الإرهابيون الذين سبق لهم تحقيق بعض المكاسب، عندما كانوا يستهدفون القضاة والإعلام والكنائس والقطارات، وغيرها من القطاعات الرخوة.
وإذا كان صحيحاً أن المعركة لم تنته بعد، لا في سيناء ولا في الوادي، وأن الأمر سيستغرق وقتاً أطول ودماً أغزر، وجهودا سياسية تنموية طويلة المدى، لاحتواء هذه الظاهرة المعقدة، فإن من الصحيح أيضاً، أن تكرار سابقة الفلوجة في العراق، أو بصرى الحرير في سورية، كأول نقطتين تمددت منهما بقعة الزيت هذه، لا فرصة نجاح لها في نسيج مجتمع مصري، لا أثر فيه للمذهبية، ولا حاضنة لديه لانشقاقات عسكرية قبلية وعرقية، ولا مراكز قوى متصارعة في أقدم دولة على وجه الأرض، وربما أشدها تعلقاً بالجيش، المؤسس لدولة مصر الحديثة.
وبالفعل، هناك ما يدعو إلى القلق حقا، لكن شيئاً لا يبعث على الهلع أبدا، أو حتى على الخوف، إزاء ما قد يجري في مصر خلال الفترة المقبلة. فإذا كانت الأمور تقاس بخواتيهما دائما، فقد كانت نجاعة الجيش المصري، واستجابته السريعة والكفؤة، للتحدي الأخير في سيناء، نتيجة حاسمة، أفضت إلى استرداد الزمام، وفرض السيطرة المنشودة.