ما التطرف وما الاعتدال؟

لا يمكن، عمليا، تحديد معنى مفاهيم ومصطلحات مثل "الوسطية" و"الاعتدال" و"التطرف"، إلا في بيئة فكرية قائمة على النسبية وعدم اليقين. هذه هي الفلسفة والفكرة المنشئة لهذه المفاهيم، ولكنها في الخطاب الإسلامي السائد أو المتبع لا معنى ولا مكان لها، أو مختلفة اختلافا كبيرا؛ إذ هناك صواب وخطأ، حق وباطل. ونحتاج إلى خطاب إسلامي جديد أو مختلف يستوعبها ويطبقها على النحو الذي تعمل فيه في بلاد المنشأ.اضافة اعلان
فمقياس الوسطية والاعتدال والتطرف، هو الاجتهاد الإنساني السائد، أو الأغلبية، أو العقد الاجتماعي المنظم لعلاقات الناس ومصالحهم. بمعنى أن التطرف هو الاختلاف عن العقد الاجتماعي السائد أو الخروج عليه، والوسطية هي الموقف الوسط بين اتجاهين أو فكرتين يجمع بينهما، وإن كان مستقلا أو مختلفا عنهما. وفي ذلك ثمة افتراضات عدة أساسية وحاكمة، تعمل في الغرب ولا تعمل في الشرق العربي والإسلامي، أو لم تعمل بعد. ويلتبس الفهم والتطبيق للمفاهيم على نحو يشبه استيراد السيارات من غير طرق أو قواعد للقيادة والمرور.
إن الصواب في العقد الاجتماعي فكرة إنسانية نسبية ليست يقينية، وليست حقا نزل من السماء؛ أو في عبارة تشمل المؤمنين بـ"حق نزل من السماء". الصواب هو الاجتهاد الإنساني في فهم وتمثل الكمال في لحظة معينة، هو صواب ما دامت الأغلبية لم تغير رأيها أو موقفها.
وفي غياب العقد الاجتماعي الإنساني، ليس ثمة وسط أو تطرف! هناك صواب مطلق وخطأ مطلق؛ الصواب هو الحق الذي نزل من السماء، وما سواه باطل. ويكون الاختلاف والصراع على الحق، أو بين الحق والباطل؛ الحق هو الصواب الذي يعتقده أصحابه ومؤيدوه كما يمتثلون للحق الذي نزل من السماء. ولا يمكن وصف هذا الحق بالاعتدال أو التطرف أو الوسطية؛ هو الصواب فقط، ويتبعه المؤمنون على أنه الحق الذي نزل من السماء والواجب اتباعه! ولا يرى نفسه متطرفا من يعتقد أنه يتبع الحق والصواب!
ولذلك وببساطة ووضوح، فإنه لا يمكن الحديث عن تطرف واعتدال في غياب العقد الاجتماعي الإنساني. فلا تصلح هذه المفاهيم والأفكار إلا في أنسنة الحكم والعلاقات. أما في ظل الاعتقاد بالصواب الإلهي والشامل والكامل -وهو ما تؤمن به في عالم العرب والمسلمين الحكومات والمعارضات على السواء، لا فرق في ذلك بين أبو بكر البغدادي وأيمن الظواهري وشيخ الأزهر ومعظم علماء الشريعة- فإن الخلاف أو الصراع ليس بين تطرف واعتدال ولكنه بين الحق والضلال، أو الكفر والإيمان، وفي أخف وصف بين الخطأ والصواب.
وفي عالم المنشأ الإنساني لمفاهيم الوسطية والاعتدال والتطرف، فإن الوسطية بمعنى الوسط بين المواقف والاتجاهات ليست هي الاعتدال أو التسامح بالضرورة، أو ليسا (الوسطية والاعتدال) دائما شيئا واحدا. أما إذا كان الوسط بمعنى الأفضل أو الصواب كما ينظر في عالم العرب والإسلام، فقد يكون ذلك في بعض الأحيان تطرفا، بمعنى الاختلاف عن السائد أو الأغلبية. أما الاعتدال إن كان يعني الصواب أو العدل، فلا يعني ذلك بالضرورة أنه وسط بين أمرين أو عدة أمور او اتجاهات. هو في اللغة العربية من الصواب والاستقامة، وفي الديمقراطيات هو الموقف السائد. وبذلك، فإن الصواب قد تتبدل مواضعه وحالاته بين اليمين أو اليسار، والحماس أو الانسحاب أو التردد أو الإقدام أو المغامرة أو التحفظ. لا يحكمنا في ذلك إلا العقد الاجتماعي أو اتجاه الأغلبية في اللحظة التي نلتمس رأيها. وفي غياب الديمقراطية، فإن الصواب أو الاعتدال هو الحق الذي نزل من السماء، ولن يعرف الصواب أو يفهم أو يحدد واقعيا ما تقوله السماء سوى السلطة المهيمنة.