يقين بعد شك!

قلنا في المقال السابق إن من أسباب ظاهرة الإلحاد التي تتشكل الآن وتمتد، هو المضمون التفكيري للتشدد الديني. فهو مضمون يلبسُ ثوبَ الدين ليقمع ويضطهد ويقتل ويحكم بقوانين غاب همجيّ! وليس الأمر في التديّن نفسه الذي يمكن أن يشفّ عن رحمة خالصة، أو عقل حاكم لو أُريد! ولكن في نوع هذا التديّن ومنابته القاحلة! فنوع التديّن هو الذي يقرّر نوع الحياة وسياستها واقتصادها ونظامها التربويّ القائم على الحفظ والتلقين والطاعة العمياء وإلغاء العقل بعد شتمه وتكفيره! ونوع التديّن يتدخّل حتى في اختيار البرنامج الإذاعي الذي يستمع إليه سائق التكسي، ويُسمعك رغم أنفك! يتدخّل في اختيار الفضائية التي ينبغي أن تكون من تلك التي تبثّ المواعظ والتخويف، على هامش تكفير كل من اختلف أو اجتهد أو استخدم عقله، أو أحال مسألة إلى الأخلاق أو المنطق، أو تحدّث في فن أو فلسفة أو موسيقى أو حداثة! فنوع التديّن هذا هو الذي في أحضانه تولدُ ردود الأفعال، ما كان منها سويّاً سليماً بنّاء ولمصلحة الإنسان، أو مسخاً مشوّها لمجرد الهدم والتدمير، مثل حركة الحشاشين في التاريخ، التي لها ظلّ وشبيه في بعض حركات اليوم!اضافة اعلان
وعلى ذلك نستطيع الاطمئنان إلى أنّ حركة الإلحاد اليوم، إن كان من حركة، ليست سوى صدى تخيّر أن يكون مختلفاً، بل على النّقيض التفكيري من تلك الموجة العارمة العنيفة للتشدد الديني، وما تنطوي عليه من لغة وتحريضات... فابتداءً من العناوين ستواجهنا لغة أخرى وتفكير آخر، ولنا أن نسأل: لم اختار الملاحدة أكثر الكلمات عصياناً على البلع "إلحاد" للإشارة إلى مسارهم اللاإيماني؟
واضح أن النيّة معقودة لإحداث صدمة ثقافية لدى جميع من يقرأ لهم من أهل الإيمان، مثلما أنه لم يكن ليخطر في البال يوماً أنّ الإلحاد سيدخل يوماً في المعادلة الاجتماعية الحالية! فالاندفاع الأهوج نحو الديني، دون تدبّر معناه الهدايويّ (نسبة إلى الهداية)، وتمثّل أعلى أخلاقه وإنسانيته، يجعل من غير السائغ أن يتساوى الإيمانيّ مع اللاإيمانيّ في الوجود، وإن لم يتساو معه في الحجم والمفعول!
وأحسب أن يوماً لم يأت على المجتمع العربي كان فيه خالياً من الفكر المتشكّك، ومرّت أوقات كان من الممكن لصاحب فكر لاديني أن يعلن لا يُبطن. غير أن هذه الأوقات قد ولّت، لأن الإطار الاجتماعي كله بات متشدداً، منغلقاً على ذاته وأفكاره، معظّماً لها، جاهزاً لا لممارسة ذاته التّكفيرية فحسب (فالملحد لا يهمّه التكفير)، بل لهدر الدماء وحزّ الأعناق! وهما أقصى عقوبة جماعية على حرية العقيدة. غير أن الأمر قد عاد فاختلفت موازينه اليوم. إذ يبدو أن شيئاً عظيماً وخطيراً قد انكسر في الهيبة الكبرى التي لتديّن هذه الأيام؛ فمع الصّعود التّدريجي للسطوة باسم الدين، وبلوغ العنف الأيديولوجي حالة التوحّش الراهنة، وانتشارها في غير بلد واحد (ليبيا، سورية، العراق) وتهديدها أقطاراً أخرى، انفجرت -فيما نرى- بؤر احتقان مزمنة طال انتظارها لفرج لتعبّر عن نفسها في ضوء الشمس لا في أقبية الخوف. وهذا ما حصل! وسنجرؤ على القول إن بؤر احتقان أخرى ستنفجرُ تباعاً، سوف تهزّ المجتمعات العربية هزّاً، ليس منها فقط الاحتقان الطائفي والقومي! بل ثمة ما ينخر بصمت بنية العائلة والأخلاق والمرأة، ولهذا حديث آخر!
وأخيراً، ولأنّ الإلحاد كمسار فكري، ليس سوى أحد تقلّبات العقل البشري في بحثه الجاد عن الحقيقة، فإن علاج هذه الظاهرة التي يُرى أنها سلبية، لا يكون في ملاحقة أصحابها وعقابهم، بل بمعالجة الوسط غير الطبيعي الذي نمت فيه، ومحو أسبابه. ولن ننسى بطبيعة الحال رحلة الدكتور مصطفى محمود في بحثه عن اليقين، حيث انتقل متدرّجاً من الإلحاد إلى عميق الإيمان! ولن ننسى كذلك رحلة أبي حامد الغزاليّ الذي نتج عن شكوكه كتابُه "المنقذ من الضلال". ولو عوقب المفكران في شكهما لفات البشرية ما منحاه بعد ذلك من يقين!
وحقاً، فما من متّسع لوقت نهدره دون أن نهرع كمن في ذيل ثوبه النار إلى مؤسسة التربية والتعليم فنصلح حالها، بل نثوّره ونعيد بناءه... وإلا اتّسع الفتق على الراتق!
دعونا نحسن الظنّ بالأمل!!!