العاشق

وجدَها بين ثنايا كتابٍ عتيق في مكتبته، ورقةً زرقاء عليها رسوماتٌ طريفة، ونصٌ مكتوبٌ بخطٍّ طفوليّ منمّق… وبدأ يقرأ وهو يتلفّتُ حوله، ليتذكّرَ أنّها أولى رسائله العاطفيّة، إن لم تكن الأخيرة! كانت موجّهةً إلى الفتاة التي شغلت قلبَه ذات زمن، وسكنت روحَه، كما سكنت في الشّارع نفسِه الذي شهدَ وقفاتِه الطّويلة القلقة أمام بيتها الصّغير، حتى حفظَ عن ظهر قلب تكوينات الحجارة المرصوصةِ بفوضى على مدخله… المخلوقةِ التي كان يتبعُها يوميّاً إلى مدرستها جيئةً وذهاباً دون أن يتجرّأ على لفت نظرها ولو بكلمة أو حركة… فقد كان طموحُه نحوها يحولُ دون أي مبادرة متسرّعة قد تكشفُ حكايته، ويحدث ما لا تحمد عقباه… فمن واجبه أن يخافَ على سمعتها، كيف لا، وهي التي ستصبحُ شريكةَ حياته ذات يوم! لذلك كلّه، كان يقضي فترة ما بعد الدّوام المدرسي في الدّكانة المقابلة لبيتها بحجّة تقديم المساعدة لصاحبِ الدّكان، الرّجلِ الطّيّب المبهور بمبادرته التّطوّعيّة النّبيلة… خاصّة، حين كان يرى الفتى يُسارع في خدمة الزّبائن من سكّان الحي، دون أن يعرف أنّه كان يفعلُ ذلك متطلّعاً بشغف إلى المرّات القليلة التي كان فيها والدُ الفتاة يأتي ليبتاع بعض الحاجيّات… هنا، كان يبذلُ جهداً إضافيّاً، محاولاً إظهارَ منسوبٍ زائدٍ من الأدب، وحسن الخلُق، حتى يتركَ انطباعاً جميلاً عنه عند الرّجل الذي سيصبحُ حماه في يومٍ من الأيّام! كان يعتني بترتيب الأشياء التي ستصلُ إلى بيتها وهو يرمق الخضراواتِ، والمعلّبات، وأكياسَ المؤونة بغبطة، لأنّها ستحظى برؤية فتاة أحلامه… وهو المحرومُ من الاقتراب منها، المحرومُ من تأمّل ملامحها… حتى بلغَ به فضولُ العاشق، أن يبحلقَ في وجه الأبِ كلَّ مرّة، محاولاً أن يستشفَّ شكلَ وجهها، ولونَ عينيها! أمّا الذي كان يغيظُه، فهو إشفاقُ الرّجل عليه من حمْل الأغراض بسبب عمره، وضآلته، ونحولِ جسده، الأمرِ الذي دفعه لتغيير عاداته في الأكل كمحاولةٍ لاكتساب الوزن الملائم حتى يُضفي على ذاته الهيبةَ المطلوبة… في الوقت نفسه، كان يقيسُ طولَه كلَّ أسبوع وهو يدعو الله أن يكبرَ بسرعة، كي يحقّقَ حلُمَ حياته بالتّقدّم لخطبتها، فقد كان قد أعدَّ خِطّةً محكمة لبناء مستقبله؛ أن يُنهيَ دراستَه الإعداديّة… ويستمرَّ في (التّحويش) من مصروفه الخاص… ثمَّ ليُقنع صاحبَ الدّكان بتوظيفه رسميّاً عنده، مقابل راتبٍ محترم يعينُه على الزّواج! وفي يومٍ ما، قرّرَ مصارحتَها، فجلسَ ليكتب لها عن مشاعره، وعن تلك الخِطّة، على ورقةٍ زرقاء، إشارةً إلى أنَّ حبَّه لها هو بوسْع السّماء… ثمَّ زيّنَ أطرافَ الرّسالةِ برسوماتٍ لعصافيرَ ملوّنة، ليطويها بأناقة، ويحملَها في صباح اليوم التّالي، فيتصيّدَ لحظةً خلا فيها الشّارعُ من المارّة، ويلقيَ بالرّسالة أمامها، ثمَّ يختبئ وراء السّور، ليعودَ ملهوفاً ليجدَ الورقةَ في مكانها… فيشعرَ بحزن الدّنيا يلتهمُ قلبَه الصّغير! أفاق صاحبُنا من تداعياته، وعاد ليُقلّبَ الرسالةَ بين يديه وهو يقول: «كنتُ غرّاً أحمق على قدْرٍ غيرِ قليلٍ من البلاهة… لكنّي كنتُ جميلاً بريئاً حالماً، وعاشقاً لمخلوقةٍ لا أعرفُ اسمَها، ولا لونَ عينيها، ولا رنّةَ صوتِها…» ليضيف: «رغم ذلك كلّه، أدفعُ ما تبقّى من عمري لأعودَ وأعيشَ مثلَ ذلك الشّعور من جديد! المقال السابق للكاتبة  للمزيد من مقالات الكاتبة انقر هنا اضافة اعلان