الفرصة الذهبية!

د.لانا مامكغ دخلتْ مكتبَه بهدوء بعد تردّد… فرفع رأسَه ليقولَ بنبرةٍ غاضبة: « ماذا الآن؟ ماذا تريدين؟ قولي بسرعة، ألا ترين كم أنا مشغولٌ في الحسابات؟ « فأجابت باضطراب: « ابنُنا لم يعد بعد كعادته، السّاعةُ تُقاربُ الواحدةَ صباحاً، ولم يرد على الهاتف حتى الآن رغم محاولاتي المتكرّرة للاتّصال به…» فعادَ إلى شأنه وهو يقول: « خلص، نامي أنتِ، أنا سأضع حدّاً لما يحدث!» ولم تنم طبعاً، وظلّت واقفةً عند النّافذة حتى عادَ أخيراً، ليعتذرَ بتهذيب، ويذهبَ إلى فراشه كأنَّ شيئاً لم يكن! وقضت اليومَ التّالي وهي تُفكّرُ في التّغيير الذي طرأ على شخصيّة ابنها منذ تخرّجِه من جامعته، وكيف كان نشيطاً مرحاً يضجُّ حماسةً وعنفواناً وفخراً بشهادته التي نالها بتميّز، وكيف كرّمته جامعتُه على نشاطاته التّطوعيّة، وعلى شخصيّته القيادية التي جعلت منه نجماً محبوباً في المحيط الجامعي بشهادة أساتذته وزملائه… أمّا الآن، فهي تراه ينطفئ أمامَها يوماً بعد يوم، ليتحوّل إلى شابٍّ عابس كثيرِ الخروج، كثير السّهر، قليلِ الكلام! وفي لحظةٍ تسلّحتْ فيها ببعض الجرأة، نقلت تداعياتها إلى أبيه، ليُنصتَ دون مقاطعة لأوّل مرّة …عاقداً العزمَ على اتّخاذ الإجراء المناسب! فاستضاف، مساء اليوم التّالي، أحدَ رجال الأعمال المرموقين في مقهى بعيد ليقولَ له: « أنتَ تعرفُ وضعي في منصبي، أيّ مبادرة باتّجاه تعيين ابني، ستثيرُ حولي زوبعةً ليس هذا وقتَها، فثمّة كلامٌ عن تغييراتٍ إداريّةٍ قادمة في المناصب العليا، وأنا أحاولُ الإبقاءَ على صفحتي بيضاء، قدْر الإمكان، عند صانعي القرار، آمل أنّك فهمت… لذلك، إيّاك أن تتحجّج بعدم وجود شواغرَ في شركتكم، أنتَ تعرفُ ما بيننا من تعاونٍ ومصالحَ لا يجوزُ أن تتأثّر… هذا ليس تهديداً، لا سمحَ الله، أنا أطلبُ فقط، وفهمُك كفاية! « ولم ينبسْ الضّيفُ بكلمة، فأضاف صاحبُنا وهو يُشير للنّادل طالباً الحساب: « أريدُ أن تخصّصَ له راتباً سخيّاً، ومسمّى وظيفيّاً لائقاً، ومكتباً فخماً، ولأنّي أعرف أسلوبَك في الإدارة، أحذّرُكَ… إيّاك أن تُتعبَه في المهام!» وبعد أقلّ من أسبوع، كان الشّابُ قد استلمَ عملَه بفرح داخل مكتبٍ فاخر في الطّابق الأخير من الشّركة، وقضى أيّاماً وهو يُجهّزُ خِططاً إنتاجيّةً طموحةً حديثة لتقديمها للمدير… ومضى أسبوعٌ وآخر، وشهورٌ وأخرى، دون أن يطلبَه أحد، ودون أن يُكلّفَ بأيّ عمل… كان وحدَه في الطّابق الفارغ بلا مكاتبَ حوله، ولا زملاء، لم يكن أحدٌ يلاحظُ إن داوم أم لم يفعل… لكنَّ راتبَه الشّهري كان يصلُه بانتظام! كان يشعرُ أنّه على وشك الجنون، خاصّةً لحظة استلام الرّاتب الذي كان مدركاً أنّه لا يستحقّه، وكان لابدَّ من وقف المهزلة التي يعيشها مهما يكن الثّمن… مقرّراً البحثَ عن أيّ فرصةِ عمل، مهما كانت، عسى أن يستردَّ شيئاً من كرامته! أمّا أمُّه فظلّت تلاحظُ حزنَه وسرحانَه معظم الوقت، ودفعها قلقُها عليه إلى أن تستجمعَ ما استطاعت من شجاعةٍ وإقدام، حتى تنقلَ انطباعَها إلى أبيه لتفاجأ به يصيحُ مزمجراً: « ماذا تريديني أن أفعلَ له أكثر ممّا فعلت؟ لقد حظيَ بفرصةٍ ذهبيّة لا يحلُمُ بها أيُّ إنسان، هذا دلالكِ أنتِ الذي أفسدَه… اختصري، لا أريدُ أن أسمعَ المزيد!» في اليوم التّالي، عرفتْ أنَّ الشّابَ استقالَ من عمله، وما تزال حتى الّلحظة تبحثُ عن الطّريقةِ التي ستنقلُ فيها الخبرَ إلى أبيه! المقال السابق للكاتبة للمزيد من مقالات الكاتبة انقر هنااضافة اعلان