عقد اللؤلؤ …

د. لانا مامكغ امرأةٌ جميلةٌ ثريّة، شاءت أنْ تُكلّفَ أحدَ الفنّانين برسم لوحةٍ شخصيّةٍ لها (بورتريه)… سألتْ، وبحثتْ، واستقصتْ، واستشارتْ المقرّبين، حتّى قرّرتْ اختيارَ من قيل لها إنَّ شهرتَه تعدّت المحليّةَ إلى العالميّة… دعته إلى مكتبها، واتّفقتْ معه على بعضِ التّفاصيل، ليبدأ المشروعُ أخيراً في منزلِها الباذخ، حيثُ كانت تجلسُ أمامَه كلَّ يومٍ لساعةٍ أو يزيد، حسبَ ما يسمحُ به وقتُها، أو مزاجُها، فاستمرَّ العملُ لأسابيعَ طوال، وهو مستغرقٌ في تحدي الدّقةِ، والتّميّزِ، والاتقانِ، كما اعتاد، وكان يقضي لياليَه مؤرَّقاً ليستحضرَ اللوحةَ في ذهنه، ويُفكّرَ في درجاتِ الظّلِّ والضّوء… هل يزيدُ هنا، أو يُنقصُ هناك؟ ثمَّ يسرحُ في التّوازن، والتّكوين، والعمقِ، ودرجاتِ الأزرق الفيروزي في ثوبِها، ليتساءلَ بقلق إنْ كان قد نجحَ في رسمِ الوهجِ الشّفيفِ على شعرِها… ليعودَ ويسأل ذاتَه إن وفّقَ في رسمِ عينيها السّوداوين العميقتين، وإن استطاعَ توثيقَ تلك الطّاقةِ الآسرةِ في نظرتِها، ليُحيّرَه السّر… كيف يمكنُ أنْ تجتمعَ الأنوثةُ، والحضورُ، والقوّةُ، مع عتمةِ الغموضِ الباهر في نظرةِ امرأة؟ فكان يصحو ويهرع إلى الّلوحةِ ليضيفَ لمسةً هنا، وأخرى هناك، ثمَّ يعودُ ويعْدِلُ عن بعض التّغييرات، ليقلقَ من جديد، كعادته … هكذا، إلى أنْ تحضرَ السيّدة، ويستأنفَ العملَ أمامها بقلبٍ وثّابٍ واجف… فالكمالُ هدفُه، ومنهجُ تفكيرِه، وغايتُه من مهنته، ولم، ولن يحدثَ أنْ يقبلَ بأنصافِ الحلولِ مهما كلّفه الأمر! وجاء اليومُ الموعود، يومُ تقديمِ الّلوحةِ لها… فوقفَ قريباً حتّى يرصدَ انبهارَها بما أنجز، ليجدَها تقولُ بحدّة: «ما هذا؟ كيف أخبروني أنّكَ القامةُ الفنّيّةُ التي لا نظيرَ لها في البلد؟ هذا عملٌ مرفوض، وسأحدّدُ لك موعداً لاحقاً لإعادة الرّسم… أف… شكراً على أيّ حال!» سرت قشعريرةٌ لاسعةٌ في أوصالِه، ثمَّ أحسَّ بجسدِه يتحوّلُ إلى تمثالٍ من جليدِ… حاولَ النّطقَ فلم يستطع، ولم يعرف إنْ كان قد أصيبَ بالشّلل، أم البكم، أم أنّه على وشكِ الموت؟ أفاقَ تدريجيّاً على لمسةِ أحدِ مرافقيها وهو يسعى لإعانته على الجلوس، فحاولَ استدعاءَ صوتِه من جديد ليتماسكَ أخيراً، فيسألَ بنبرةٍ جافّةٍ متقطِّعة: «هل لي أن أعرفَ، سيّدتي، ما الذي لم يُعجبكِ في الّلوحة؟» أجابتْ وهي تركّزُ عينيها عليه بغضب: «سؤالكَ غريب، كيف يُقالُ عنكم، أنتم الفنّانون، أنّكم شديدو الملاحظة ؟ ألم يلفتْ نظرَك عِقدُ اللؤلؤِ الذي كنتُ حريصةً على ارتدائه كلَّ جلسة؟ هل لديك أدنى فكرةٍ عن سعره؟ ألا تميّزُ اللؤلؤَ الأصيل؟ لقد رسمتَه باهتاً دونَ أنْ تأبهَ بإظهارِ لمعتِه التي لا تُضاهيها لمعة بين مجوهراتِ العالمِ كلّه…» وفي لحظةٍ بدأ يتمنّى الموتَ فيها فعليّاً، كانت قد أخرجتْ دفترَ شيكاتِها، وشرعتْ بالكتابةِ وهي تقول: «هذا مقابلُ ما استهلكتَ من ألوان… أرجو التّواصلَ معي في وقتٍ لاحق لتحديدِ المواعيد المتعلّقة باللوحةِ الجديدة…» ثمَّ لتضيفَ بنبرةٍ آمرة: «لوحةٍ جديدةٍ في ضوء ملاحظاتي لك، لعلّكَ فهمتَ أخيراً!» رفعت رأسَها وهي تمدُّ الشّيكَ نحوه، لتفاجأ به قد اختفى، اختفى تماماً… وما زالَ البحثُ جارياً عنه حتّى اللحظة! المقال السابق للكاتبة  للمزيد من مقالات الكاتبة انقر هنااضافة اعلان