عقد اجتماعي معولم

يُفترض أن الإنسان يخشى ما لا يعرفه أساساً. لذلك، تبدو إحدى مفارقات العولمة التي أفضت إلى إزالة أغلبية الحدود إن لم يكن جميعها بين البشر، وبما سمح بدوره بالتعرف على "الآخر"، هي تعزيزها الخوف والكراهية بقدر تقريبها بين الشعوب؛ في العالم الواقعي كما عبر العالم الافتراضي.اضافة اعلان
طبعاً، يمكن فهم هذه المفارقة، وحل التناقض الأولي والظاهري، نظرياً، بحقيقة أن إلغاء الحدود الجغرافية خصوصاً، حتى عبر التواصل عن بعد، خلق صراعاً على الموارد، ولا سيما على صعيد الأفراد الذين يمثلون اليوم القاعدة الواسعة للحركات الشعبوية كما العنصرية التي تروج للعودة إلى الدولة القومية؛ دولة ما قبل العولمة.
لكن، هل من الممكن، بأي درجة وشكل، العودة إلى مرحلة ما قبل العولمة؟ الإجابة تبدو محسومة بالنفي. بل وكما يؤكد رئيس الوزراء البلجيكي الأسبق غي فيرهوفشتات، فإن إنجازات الخطاب الشعبوي الانغلاقي (أو حتى الانتقائي) الحالية، ولا سيما فوز دونالد ترامب بالرئاسة في الولايات المتحدة وخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، هي ذاتها ما سيؤكد استحالة الخروج من العولمة.
والإقرار بالعولمة باعتبارها قدراً لا مفر منه، يعني أنه من غير الممكن التعويل على التعايش مع الصراع الذي تولده؛ تطرفاً وعنصرية وإرهاباً، إلى وقت طويل. في المقابل، فإن تاريخ العالم ينبئ بأن التطورات الأعظم الذي عرفها هذا التاريخ على صعيد الارتقاء بحياة الإنسان، إنما جاءت نتيجة مباشرة لبعض أشد الصراعات التي شهدتها البشرية. يصح ذلك على الديمقراطية عموماً، باعتبارها نتاج صراع طبقات؛ تاريخية (الأرستقراطية) وصاعدة (البرجوازية) ومهمشة مضطهدة (العمال)، ثم تهذيب/ أنسنة هذه الديمقراطية عبر التخلي عن النسخة الكلاسيكية للرأسمالية. كما يصح هذا الأمر تماماً على مشروع الاتحاد الأوروبي الذي نشأ أساساً لخلق السلام في القارة عبر التكامل الإقليمي، لمنع تكرار تجربة حربين عالميتين مدمرتين.
هكذا، بدل التعايش مع الصراعات العنيفة دولياً؛ بما يشمل فاعلين من غير الدول، ولا سيما التنظيمات الإرهابية، يبدو ممكناً –والبديل الوحيد للصراعات- خلق بيئة تسمح بالتعايش أو الاعتماد المتبادل بين الشعوب. ولعل هذا ما يبرز في حالة العلاقة بين أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
إذ اليوم تبدو أوروبا الثانية، بعد منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي تحديداً، في دفع تكاليف المآسي التي تشهدها الأخيرة، وعلى كل مستوى؛ من التعامل مع تدفقات اللاجئين إلى التهديد الإرهابي وصولاً إلى صعود اليمين المتطرف بما يمكنه من اكتساب صوت مؤثر حتى وإن لم يستطع تولي الحكم في أوروبا.
وقد أثبت "الربيع العربي" أنه من غير الممكن أبداً إبقاء الناس حبيسي منطقتهم بغض النظر عن الشروط المعيشية فيها، السياسية قبل الاقتصادية والاجتماعية. ما يعني أن احتواء موجات اللاجئين كما التهديد الإرهابي القادم من المنطقة، لا يمكن أن يتم إلا بخلق أسباب البقاء في العالم العربي، وضمن ذلك أسباب رفض الإرهاب. وهو ما يبدو متاحاً فقط بتكامل من نوع ما مع القارة الأوروبية، شرط استناده -كما الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي- إلى الحد الأدنى من الإصلاحات السياسية.
ما ينطبق على العلاقة الأوروبية-العربية ينطبق على مناطق أخرى، بما يعني الحاجة إلى عقد اجتماعي معولم، ينظم العولمة بشمولية بدل الانتقائية الحالية.