"التهدئة".. الحرب من طرف واحد!

بعد هزيمة العرب في العام 1967، وصفت الحالة التي سادت الصراع مع كيان الاحتلال بأنها "اللاسلم واللاحرب" - باستثناء الاشتباكات المتفرقة التي لم تشكل أيّ منها حرباً نهائية حاسمة. وعلى الجبهة الفلسطينية نفسها، اعتُبرت الجبهة "هادئة" حين لا يكون هناك اشتباك عسكري يموت فيه الفلسطينيون. وساد اعتقاد بأن الفلسطينيين يكونون في هذه الفترة مرتاحين– مؤقتاً- من أعباء الحرب. وفي الأطوار الأخيرة من الصراع، أصبح تيار المقاومة وتحرير كامل فلسطين – والإسلاميون في المقدمة- يحبّذ حالات "الهدنة" و"التهدئة" كخيارات تكتيكية.اضافة اعلان
الحقيقة أنّ وصف أيّ مرحلة من الصراع مع العدو بأنها "تهدئة" و"هدنة"، ظل ينطوي دائماً على خداع غريب للذات. وقامت الخدعة على أن عدم استهداف الفلسطينيين بالرصاص والقذائف ليس حرباً، في حين لم يوقف العدو حربه الشاملة دقيقة واحدة منذ نشأته. ولنتأمل: إن فترات "التهدئة" و"الهدنة" وما شابه، عندما لا يكون الدم الفلسطيني المراق ملء الشاشات يتوسل الانتباه، هي أروَح وأفضل مناخات يعمل فيها الاحتلال على مواصلة حربه بلا أضواء: الكتل الاستيطانية تتمدد كخلايا السرطان التي تقتل فلسطين بصمت غادر؛ الجرافات تعمل بصخب أقل على اغتيال أشجار الفلسطينيين وتجريف حقولهم؛ الدوريات لا تتوقف عن اعتقال المزيد من الفلسطينيين في الليل والنهار؛ نقاط التفتيش تحبس الفلسطينيين في سجون مفتوحة، وتقتل المرضى على الحواجز؛ البلديات تصادر الأراضي وتهدم البيوت؛ القُدس تُقضم قطعة قطعة والحفارات تقوض أساسات المسجد الأقصى؛ "الكنيست" تسن القوانين التمييزية بهدف قتل رغبة من تبقى من الفلسطينيين في أرضهم في البقاء؛ المزيد من "الحقائق على الأرض" تُرسى في كل دقيقة لإعدام أيّ احتمال لقيام أي كيان فلسطيني قابل للعيش. ما هذه كلها إذا لم تكن أعمال حرب وغزو غير متوقف؟!
وفي المقابل؟ يبدو الفلسطينيون في "التهدئات" وكأنهم يعيشون في دعة مفتعلة وليس في حالة حرب. ويبدو أيضاً أنّهم يصدقون ذلك، فيأخذونها فسحة للتنفس ويكسلون. فعلى الصعيد الدولي، لا نشاهد نشاطاً محموماً يستثمر الوقت في التحشيد وإقلاق ضمير العالم المتواطئ، أو في نشر الرواية الفلسطينية، أو في تجنيد كل الفلسطينيين في الداخل والخارج ضمن إطار منظم واضح الغايات. وفي الداخل، لا نرى انكباباً مخلصاً وماكراً على مراجعة وتصحيح واجتراح عناصر القوة والتأثير التي ينبغي أن تغيّر في توازنات القوى بعد "الهدنة". وعلى الصعيد العسكري، تتدرب قوات أمن السلطة – مستأنسة بالهدنة- على حراسة مؤسسة الاحتلال، تحت إشراف العدو؛ وفي غزة، يعمل كل طرف على بناء "جيشه" الخاص المستقل، ويستهدف الجميع في أحسن الأحوال تحقيق ردع يشتري "هدنة" تفيد حرب الاحتلال المذكورة بالتأكيد أكثر. أما شاغل الفلسطينيين الأساسي في فترات الهدنة والتهدئات، فاشتغالهم ببعضهم -إما في صراع، أو في محاولات بسمات الصراع لترقيع الانقسامات من الأطراف، ودائماً بهدف إبقاء الذين في السلطة في السلطة، في "الدولتين".
مبدئياً، لا جدوى من لوم الفلسطينيين في هذه الأوقات على تفضيلهم حالة "الهدنة" على الاشتباك، في ظل الاختلال الذي لا يمكن إنكاره في موازين القوى العسكرية مع العدو. لكنّهم يجب أن يلوموا أنفسهم على حصّتهم من سوء إدارة صراعهم بحيث ظل هذا الاختلال يذهب دائماً بعيداً إلى مزيد من الخسران في جانبهم، سواء باستمرار التغيير في الثوابت والاستراتيجيات، أو الانشغال الهروبي بالجانبيات وتضييع الوجهات، واختراع المزيد من الانقسامات. وإذا سألت الفلسطينيين اليوم: "ماذا تريدون؟"، فسيجيبك كلٌ بجواب مختلف؛ وإذا سألتهم: "ما هي فلسطين التي تريدون؟"، فسيجيبون أيضاً بأشياء مختلفة؛ وإذا سألت: "كيف ستنتزعون فلسطينكم من قبضة النسيان؟"، فسيتعثرون بالجواب. فأيّ خسارة ألحقتها حرب العدو المستمرة ضد الفلسطينيين بالفلسطينيين- في الاشتباكات و"التهدئات"- بحيث ضيعوا الإجابات عن هذه الأسئلة التي هي الأصل والغاية؟!
المشكلة الإضافية أن "الهدنة" و"التهدئات" تجعل العدو يظهر أمام العالم قليل الانتباه، بمظهر المسالم الهادئ غير العنفي ولا الراغب في إيذاء الفلسطينيين. وعندما يريد، يشن غارات الاغتيال والقتل بدعوى الدفاع عن النفس، وينجز غايته ويعود للمطالبة بالتهدئة. يعني، الفلسطينيون هم الذين يحاربون، فيرد. وهم الذين يعتدون، فيدافع! والفلسطينيون، يخدمون بمثالية في إثبات الفكرة. نِعمَ "التهدئة"!

[email protected]