فرص تنموية مهدورة

تسعة عقود من تاريخ التنمية في الأردن، بنجاحاتها وإخفاقاتها، تحتاج إلى تدوير الاستفادة من التراكم، وتحويله إلى قيم وفوائد نوعية وكيفية؛ بمعنى أنه لا يمكن أن نستمر في التراكم من دون تحويله إلى قيم نوعية. ومن ذلك، على سبيل المثال، إنجازات التعليم وتنمية الموارد البشرية، وإنجازات الاستقرار السياسي والأمني، وإدارة الندرة، والسمعة، وقيم النظام السياسي. فكل ذلك وغيره يحمل قيمة مضافة قابلة للتوظيف النافع، من خلال سياسات جديدة ومبدعة؛ أي الاستثمار الجديد والمبدع في هذه المجالات وإنجازاتها، وتحويلها إلى مورد جديد. وللأسف، فإن هذا لم يحدث، حتى على مستويات ضيقة.اضافة اعلان
حان الوقت لأن نعترف بالفرق بين السياسة والسياسات العامة. إذ لدينا سياسيون (وأشباههم) كثر، لكن ماذا عن الخبراء الاستراتيجيين الذين يطورون السياسات ويبتكرون فيها؟ ولدينا صالونات سياسية ومنتديات للنقاش والسجال السياسيين، لكن ماذا عن بيوت الخبرة المعنية بالسياسات؟ والمقصود هنا المؤسسات العامة، أو المؤسسات البحثية أو المدنية المستقلة، والتي تحرص على استقلالها وسمعتها، وتدشن ذخيرة معرفية وتراكما في الخبرات، يجعلانها بالفعل مرجعيات وطنية.
ما يحدث منذ سنوات هو أن السياسيين (وأشباههم) احتلوا المجال العام، وتعاملوا مع السياسات والاستراتيجيات بأدوات السياسة، أي مع الأحوال اليومية، ما جعل الرؤية أكثر غموضا. فالتراكم الطويل للسياسات العامة، وما تتركه من آثار، وما تعِد به الناس، هو الذي يجدد العقد الاجتماعي ويزيده قوة. وهذه المهمة لا تترك للسياسيين وحدهم أيضا.
لا يعني ذلك خلق موارد جديدة من العدم، بل الاستثمار في كفاءة إدارة الموارد المتاحة، وخلق ثقافة جودة في كفاءة الإدارة، وغرس ثقافة الجودة في تفاصيل إدارة الندرة كافة، بما يشمل المدخلات، من موارد بشرية وأفكار ورأس مال معرفي ورأس مال اجتماعي، مروراً بجودة العمليات وما يرافقها من نظم الإدارة الرشيدة والمزيد من الحاكمية والضبط، وإجراءات النزاهة، وصولاً إلى جودة المخرجات؛ أي كفاءة المجتمع.
على هذا الأساس نجد عشرات الأمثلة منها؛ هل استطاع الأردن توظيف سمعته الأمنية الدولية والإقليمية، وسمة الاستقرار النسبي التي يتمتع بها، وتحويلها إلى مورد ينتفع به، بدل أن نبقى نتغنى بالأمن والأمان، مكتفين بأن تبقى هذه القيمة المضافة مجرد شعار؟ علينا تصور حجم ما يمكن أن يأتي به هذا النوع من الاستثمار من قيمة اقتصادية مضافة. وهنا علينا، مثلا، تذكر لماذا لم نتابع مصير العديد من المنظمات الدولية التي تتخذ من دمشق وبيروت والقاهرة مقارَّ لها، وقد أُغلقت تلك المقار أو جُمد الكثير من أنشطتها خلال السنوات الأخيرة؛ هل تمت متابعة هذا الملف بجدية؟ هل توبعت عشرات المشاريع الدولية الكبيرة المعنية بالإصلاح والديمقراطية والحريات، والتي كانت تجول في المنطقة تبحث عن مراكز إقليمية؟ فهذا الأمر لا يعني فقط سمعة دولية وإقليمية، بل هو قيمة اقتصادية مضافة، والمزيد من فرص العمل وتدفق الأموال، وكلنا يعلم كيف تتنافس الدول فيما بينها لاستضافة مقر منظمة دولية.
ثمة فرص مهدورة لا تحتاج إلا إلى بعض من الحكمة، وشيء من الشجاعة.

basimtweissi@