لا حرب في المدى المنظور



في الإجابة عن سؤال الحرب المتداول على ألسنة الناس هذه الايام، والمشفوع بقلق طبيعي داخل هذا الاقليم سريع الاشتعال، يتطلب تقدير الموقف القيام بسلسلة من التمهيدات والاستدراكات والتخمينات، المبنية على الخبرات وما هو متاح من معلومات، ناهيك عن القدرة على قراءة المشهد المتغير، ومن ثمة وضع الاستنتاجات الواقعة في منزلة وسطى بين الشك واليقين، لعل ذلك يقدم إجابة أبعد ما تكون عن التمنيات، التي كثيراً ما تلوي عنق الحقائق خدمة لهذا الموقف أو ذاك.اضافة اعلان
وباعتبار أن الحرب أمر خطير جداً، وهي أسوأ ما اخترعه الإنسان، فقد تم نزع قرارها من بين أيدي الجنرالات، وتُرك أمرها للسياسيين، كونهم الأكثر قدرة على وزن المعطيات وإدراك المضاعفات، والأوسع فهماً للنتائج والتداعيات، وهو ما يقول لنا بصراحة؛ إن قرار الحرب يظل، حتى آخر لحظة، رهناً بحسابات القادة المنتخبين، وليس للضباط الكبار في غرف العمليات، وبالتالي فإن الدوافع التي قد ترجّح الحرب هذا اليوم قد تتغير يوم غد، ويبتعد شبحها إلى حين قد يطول.
 في الواقع، نحن في هذه المنطقة أقرب اليوم من احتمال وقوع حرب إقليمية كبيرة أكثر مما كنا عليه من ذي قبل، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن الحرب مؤكدة في مطلق الظروف، أو أن نُذُرها باتت تلوح في الأفق المنظور، فشتان بين أن تكون الحرب تحصيل حاصل، وبين أن تكون مجرد احتمال يتعزز ذات مساء، ثم يتبدد في صباح اليوم التالي، تبعاً للتقديرات المتأرجحة، والهواجس المستحكمة، فضلاً عن التطورات السياسة المتقلبة، والمواقف المتغيرة لدى صانعي القرار.
وبالمقابل، فإن الحرب التي من المقدر لها أن تغير وجه المنطقة، وأن تعيد بناء المعادلات القائمة فيها، حرب لا يمكن توقع موعد نشوبها حتى لدى مخططي العمليات، إلا أنه لا رادّ لها في وقت مقبل من الأوقات، التي قد تبدو ملائمة لأصحاب القرار في ربيع العام المقبل او في صيفه على أبعد تقدير، نظراً لما تحتاجه المواجهات الواسعة من تهيئة دبلوماسية واستعدادات لوجستية، أحسب أنها جارية على قدم وساق، منذ أن وضعت الولايات المتحدة استراتيجيتها الشاملة ضد إيران.
إذن نحن في الوقت المستقطع اللازم لإنضاج الظروف اللازمة، وبناء القدرات العسكرية القادرة على خوض حرب قد يطول أمدها ويتسع نطاقها، ويتعدد اللاعبون فيها، فضلاً عن الحاجة لتطوير وتحديث الخطط الموضوعة في الأدراج المغلقة، لمواءمة ما يستجدّ من معلومات استخبارية يجري جمعها على مدار الساعة، أي أننا الآن في مرحلة التسخين على نار هادئة، وقرع الطبول الممهدة لاندلاع حزمة كبيرة من الشرر المستطير، وليس شرارة واحدة.
وباعتبار أنّ لكل أزمة منطقها الخاص بها، وهو منطق لا يمكن فهمه بصورة اوتوماتيكية، فإن ما يجرى من تصعيد متبادل بين واشنطن وطهران ووكلائهما، في صورة حرب كلامية متصاعدة الوتيرة، سيفضي في نهاية الأمر الى كل ما يفضي إليه أي تصعيد بين طرفين مدججين بالكراهية المتبادلة، والحسابات والمصالح المتناقضة، إن لم يلجأ أحد منهما إلى خيار الدبلوماسية، وهو ما لا يبدو أن إدارة ترامب في وارد اللجوء إليه، بعد ان عابت على ادارة أوباما اتباع سياسة المهادنة مع إيران.
علينا ان ننظر إلى مجريات الوضع الراهن في سورية، كي نقتفي أثرا ما قد ينجم عن الحرب بالوكالة، الدائرة في البلد الذي ما يزال بعيداً عن نهاية الأزمة الدامية، لنشهد بأنفسنا المآل الأخير لسياسة اللعب على حافة الهاوية، ونترقب ما قد يؤدي إليه التدخل الاسرائيلي المباشر، منعاً لاستقرار الوضع لمصلحة إيران، من مخرجات يرجح لها أن تكون جزءاً من مخرجات أوسع، تعمل عليها الولايات المتحدة، وفق ما تشي به الغايات النهائية لاستراتيجية أميركا في الشرق الاوسط.
إزاء ذلك كله نقول بتحفظ؛ من غير المرجح وقوع حرب جديدة في المنطقة في المدى المنظور، دون أن يعني هذا أنها مستبعدة بالمطلق وفي كل الحالات، طالما أن جمراتها ما تزال تتقد تحت طبقة خفيفة من الرماد الساخن، وبالتالي فإن كل تصرف متهور، أو سوء فهم متبادل، يحدث هنا أو هناك، قد يقوض هذا الافتراض بالكامل دفعة واحدة.