إقليم غارق حتى أذنيه

بليغ ومعبّر التوصيف العام الذي أطلقه سياسي مخضرم للحالة العربية القائمة اليوم، حين اعتبر أن "المجتمعات العربية تعيش حالة انتحار جماعي"! والخشية هي من أن تمضي هذه المجتمعات في انتحارها، حد تجاوز قدرة أي حلّ على إنقاذها من المصير القاتل، والمحتوم إلى الآن.اضافة اعلان
طبعاً، المقصود بالانتحار الجماعي هي هذه الحروب العربية الأهلية المشتعلة في غير بلد، وأبرزها تلك التي تخاض باسم الإسلام، ضد آخرين يرفعون راية الإسلام ذاته؛ وتجسّدها حروب تنظيم "داعش" الإرهابي، كما الحروب ضده، وما نجم عن ذلك من حروب طائفية متعددة.
في سورية التي أعلنت ثورتها منذ أكثر من أربع سنوات، صار الاقتتال على أرضها يجمع كل الأضداد. فالشعب الثائر يطمح إلى التخلص من رئيسه الدموي بشار الأسد، والذي قتل بدوره ربع مليون إنسان من هذا الشعب، وشرد 13 مليونا آخرين بين لاجئ ونازح. لكن الحرب بالوكالة التي تخاض على أرض سورية، جعلت ثلث مساحتها تحت سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي، الذي يختبئ خلفه النظام كضمانة لإبقائه، لاسيما أن التنظيم لا يوفر أحدا في جرائمه؛ قتلا وإرهابا.
أما العراق الذي لم يعد بخير منذ سقوط بغداد بالاحتلال الأميركي العام 2003، فقد أصبح بدوره فريسة سهلة للطائفية، تتقاسمه، وسط معاناة مزدوجة. فتنظيم "داعش" يبسط ذراعه على ثلث مساحة بلاد الرافدين أيضا، فيما الحكومة المحكومة لإيران، توفّر الطريق الأسهل لاستهداف السُنّة من شعبها، من دون أن تعي أن الحرب الطائفية فيها تفتك بالعراق وتنهكه، مقدمة خيراته للغير على طبق من ذهب، مع ترسيخ خطوط تقسيم البلاد.
واليمن الذي لم يعد سعيدا، غارق أيضا في أزمته؛ حتى صار الآن يمنين أو ثلاثة؛ لا أحد يدري! وفي الأفق يلوح ما هو أسوأ؛ فاليمن اليوم دولة فاشلة، فيما العالم غير مكترث بما يحدث فيه من حرب أهلية، إذ الاهتمام ينصب على مواجهة الإرهاب.
ليبيا بدورها ليست أحسن حالا، ولا يمكن وصفها بأقل من كونها دولة فاشلة أخرى. وفيما الفرقة والشقاق والاقتتال تدب بين أهلها، يتأهب "داعش" للانطلاق هناك أيضا.
كذلك، تتكاثر على السعودية التحديات، ولا يبدو أن البوصلة واضحة فيها حتى اللحظة. فتنظيما "القاعدة" و"داعش" أمام ناظريها، والأخطر ما يجري في حديقتها الخلفية؛ اليمن. كما أن منافستها التاريخية؛ إيران، تبسط سيطرتها في المحيط؛ من اليمن إلى العراق وسورية، وليس انتهاء بلبنان الذي يعجز لشدة انقساماته والتباينات في داخله عن اختيار رئيس للدولة.
أما مصر الثورات، فلم تعد الشقيقة الكبرى التي نلوذ بها؛ فهي أيضا مشغولة بأزمتها المتراكمة سياسيا واقتصاديا، فنجدها غائبة عن أزمات أخواتها في ظل معاركها الداخلية، الأمنية والسياسية.
حتى تونس التي تجاوزت "الربيع" بخير، وقدمت نموذجا عربياً مميزاً، لم تسلم أيضاً؛ إذ استهدفها الإرهاب. وقد أعلن "داعش"، الابن الشرعي لتنظيم "القاعدة"، مسؤوليته عن الهجوم الإرهابي الذي استهدف متحف باردو في العاصمة التونسية يوم الأربعاء الماضي، وأدى إلى مقتل 20 سائحا أجنبيا.
طبعاً، في خضم كل هذه الأزمات، تضيع البوصلة العربية، وتُنسى قضية العرب؛ فلسطين واحتلالها، وهي التي يفترض أنها القضية المركزية. وتسوء الحال أكثر بعودة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى الحكم، مهددا بل ومتعهداً بأن لا تقوم للدولة الفلسطينية قائمة. وكلام القاتل الإرهابي مقصود بحرفيته، وليس كما يبرر البعض بأنه خرج لغايات انتخابية.
كل هذا يحدث في بلداننا العربية، حيث تتقاسم القوى الإقليمية والدولية الفاعلة الغنائم والنفوذ، بفضل تضييع العرب ماضيهم وحاضرهم. لكن الأخطر أنهم يواصلون السير على الطريق نفسها نحو "المستقبل"!
وليس من ضير هنا في تأكيد ما بات بدهية، وهو أنه عند الحديث عن تضييع "عرب المستقبل"، فإن المقصود ليس الشعوب وحدها، بل تخسر معها أيضاً الأنظمة، سواء بسواء!