الحرب الإعلامية أولاً

منذ بدأ الصراع على الكلأ والماء، وتواصل فصولاً متعاقبة على الموارد والمناطق والممرات، حتى زمن الحملة الدولية على الإرهاب، كانت الحرب الإعلامية، بمسمياتها ومضامينها المختلفة، ركناً ركيناً من المشهد الحربي المتطور بتطور الاكتشافات والاختراعات والغايات، إلى أن بلغت هذه الحرب ذروتها السامقة في عصر الصورة الرقمية وثورة الاتصالات الرقمية والهاتف المحمول.اضافة اعلان
وعليه، نحن اليوم في خضم حرب إعلامية متعددة المستويات والجبهات والأدوات، يخوضها الجميع ضد الجميع، بسائر الدوافع والشعارات، على نحو لا يقل ضراوة عن الحروب الكلاسيكية والصراعات الأهلية. إذ تدور المعارك الكلامية الترهيبية ليلاً ونهاراً بلا انقطاع، وتجري حول موضوعات وعناوين متفاوتة الأهمية، وكثيراً ما تسبق المواجهات الحامية على خطوط النار.
وأحسب أن أول حرب إعلامية جرت في التاريخ الإسلامي، واتخذت اسماً رمزياً بالغ الدلالة، كانت تلك التي تم فيها رفع "قميص عثمان"؛ وأن آخر صفحة من هذا التاريخ الحافل بالحروب الدامية داخل الإسلام، هو ما يجري الآن تحت مسمى إعادة الخلافة، كذريعة لصراع وحشي على السلطة والأحقية والمرجعية، تولى أمره تنظيم "داعش" على رؤوس الأشهاد، واستخدم فيه أحدث التكنولوجيا.
ولعل "الثيمة" الأساسية لكل هذه الحروب النفسية والمعارك الإعلامية، هي المبالغة على الخصوم والأعداء، والتهويل عليهم بهذه الدرجة أو تلك من البراعة والإتقان. فمن قرع الطبول وإشعال النار أيام الحروب البدائية، إلى زمن الشبكة العنكبوتية الآن، اعتمد القائمون على هذه الحروب مبدأ ترهيب العدو، وكسر روحه المعنوية، ودفعه إلى الاستسلام بأقل قدر من الخسائر المادية والبشرية المترتبة على الطرف المهاجم.
لقد أدركت جميع الدول والقوى والأحزاب أهمية الحرب الإعلامية، بما في ذلك الدول المحايدة، من منطلق أن هذه حرب بديلة ومكافئة للحروب الساخنة، تُخاض بنفس طويل وأدوات قتل ناعمة، وتحتدم بلا دماء وبكلفة مادية متواضعة، فيما ضاعفت الدول الداخلة في صراعات لا نهاية لها على النفوذ والسيطرة والزعامة، اهتماماتها بهذا الجانب من حروبها الكامنة، وسخّرت للتفوق فيها قدرات إعلامية وتكنولوجية هائلة.
ويصح تسمية هذا العصر، من دون أدنى تحفظ، باسم عصر الصورة، القادرة وحدها على كشف الحقيقة كما هي في الواقع، وإقامة الدليل القاطع على المزاعم والادعاءات والروايات. إذ يكفي بث مشهد من عين المكان عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لإسقاط خطاب سياسي كامل على الأرض، خاصة بعد أن تحول المواطن بهاتفه المحمول إلى وضع المراسل الحربي، على نحو ما تجلت عليه الحال خلال الحرب في كل من سورية والعراق على مدى السنوات الطويلة الماضية.
وبالنتيجة العملية الملموسة، فقد أصبحت الحرب الجارية على شاشة التلفزيون أهم من تلك الناشبة في ميادين القتال. وصار كسب هذه الجولة نفسياً، أو الظفر بتلك المواجهة إعلامياً، يعادل ربحاً عسكرياً على أسنة الرماح، الأمر الذي يوضح سبب إيلاء الدول والجماعات العقائدية هذا القدر من العناية بالإعلاميين، وهذا التودد لوسائل الإعلام القادرة على فتح جبهة عريضة، وخوض معارك حامية الوطيس، بدرجة لا تقل ضراوة عما يجري في ميدان المواجهة العسكرية.
ولا شك أنه كلما كان المحتوى الإعلامي رصيناً ومتمتعاً بالثقة والمصداقية لدى الرأي العام المحلي والدولي -وهو المستهدف أساساً بكل الحروب الإعلامية منذ كانت- كان أكثر نفاذاً وأشد فاعلية. إذ يكفي أن يتم ضبط رسالة إعلامية كاذبة أو صورة مزورة، حتى ينفضّ المتلقون عن استقبال ما سيلي من رسائل، حتى إن كانت صادقة؛ إذ سيتم وصم أصحاب هذه "البروباغاندا" بالمضللين الديماغوجيين الأفاقين، حتى وإن فازوا في المعركة لاحقاً.
خلاصة القول، أنه يحق للعاملين في حقل الإعلام بكل وسائله ومنافذه، من المرئي إلى المقروء والمسموع، أن يستشعروا في قرارة أنفسهم بالأهمية، وأن يسود لديهم الحس بالاستحقاق، بأنهم ذوات لا يقلون جدارة عن الجنرالات، وأنهم أيضاً ليسوا أقل من هؤلاء القادة العسكريين مكانة، طالما أن المعارك الإعلامية باتت تأتي أولاً، وتوازي الحرب التقليدية فاعلية وأهمية وتأثيراً في توجيه دفة الربح والخسارة الحربية، إن لم نقل إن رجال الإعلام باتوا يتفوقون أحياناً على ضباط هيئة الأركان وقادة غرف العمليات، القابعين في أروقة تحت أرضية محصنة.