"جدار حيّ"

كانت لافتة كثافة تلك التعليقات التي حفلت بها الصحافة الإسرائيلية، خلال الأسبوع الماضي، إزاء قرار اتخذته وزارة المعارف التي يديرها أحد أشد أحزاب ائتلاف حكومة بنيامين نتنياهو يمينية (البيت اليهودي)، بسحب رواية إسرائيلية من منهاج التعليم الخاص بصفوف المرحلة الثانوية، تحت عنوان "جدار حيّ"، بذريعة الحرص على نقاء الدم وخصوصية الهوية، ناهيك عن الخشية من الآخر، والخوف من السوابق والإيحاءات التي قد تستلهمها، وتحذو حذوها، الأجيال اليهودية الشابة.اضافة اعلان
ولما كنت خالي الوفاض عما يتصل بمنهاج التعليم الإسرائيلي، ولست مهتما بمضامينه التربوية التي أعرف فقط أنها تربي على كراهية العرب، وتستهين بثقافتهم، وتستعلي على عرقهم؛ فقد لجأت إلى محرك البحث "غوغل" لعلني استزيد علماً بفحوى رواية "جدار حيّ" المصادرة، وأقف على الدوافع العميقة الكامنة وراء حجبها عن الجيل الجاري إعداده للالتحاق بالمعسكرات بعد التخرج، لاسيما أن الأمر يتعلق بكاتبة يهودية إسرائيلية، وليس بشاعر فلسطيني اسمه محمود درويش، سبق لذات الوزارة أن سحبت أحد دواوينه من منهاج التعليم الثانوي أيضاً، تحت ذريعة الخوف من الآخر نفسها.
وبحسب ما هو متاح من المصادر المختلفة، فإن هذه الرواية المصادرة للكاتبة الاسرائيلية دوريت رنبيان، تدور حول علاقة حب إشكالية، بين فنان تشكيلي عربي اسمه حلمي، وفتاة يهودية تعمل في مهنة الترجمة اسمها ليئات، تجري وقائعها بين ثلاث مدن، هي نيويورك ورام الله وتل أبيب، وتعالج الأبعاد المكانية والزمانية، فضلاً عن الجوانب السياسية والاعتبارية والشخصية، للصراع القائم بين رؤيتين وروايتين وذاكرتين، مثقلتين بالهواجس والنوازع والارتيابات المتبادلة، على نحو ما شخصته رواية "جدار حيّ" هذه.
ولم يكن فشل قصة الحب بين كائنين بشريين شبّا معا في بيئة من العداء والكراهية، أمراً غير متوقع، إن لم نقل إنه كان المحصلة الحتمية للصدام بين موروثين متصادمين على طول الخط المستقيم، ومكان واحد مسكون بمنطق الحديد والنار، حاولا فيه -ليئات وحلمي- أن يتحررا منه لبعض الوقت، بعيدا عنه في تلك المدينة الأميركية الصاخبة، إلا أنهما ظلاً مشدودين، كل لمجتمعه، وذاكرته وآلامه، وبقيا مدركين في قرارة نفسيهما، أنهما حين يعودان إلى مكان الصراع المشترك، فإن هذا المكان لن يستطيع قبولهما أو التسامح معهما.
ولعل السؤال هو: ما الذي كان يخشاه صاحب قرار منع هذه الرواية من التداول بين أيدي الطلبة الثانويين الإسرائيليين، إذا كانت قصة الحب المستحيل هذه قد انتهت إلى الفشل، وأكدت أن الانتماء للعرق والدين والثقافة أقوى من الحب، وأن المصائر الفردية محكومة بمدخلات الصراع المديد، وخاضعة لمخرجاته العاطفية بالقدر نفسه؟ وماذا لو أن هذه العاطفة تغلبت على الأقدار الفردية، وصنعت حالة استثنائية ذات دلالات رمزية مغايرة؛ هل كان سيتم حرق الرواية، وملاحقة الكاتبة جزائيا بجريرة خرق المحرمات اليهودية؟
لسنا في معرض المعالجة النقدية لحبكة رواية "جدار حيّ" ولا نحن في موضع استنطاق الكاتبة الإسرائيلية عما كانت تود استكناهه، أو ربما استبطانه، في معمار هذه الرواية. إلا أننا نود، في المقابل، أن نستخلص مغزى قرار الحجب الصادر عن عقلية صهيونية مغلقة، لا يرغب أربابها في رؤية الفلسطيني إلا من خلال فوهة البندقية، ولا يحفلون بوجوده إلا على حواجز التفتيش (المحاسيم) وفي داخل المعتقلات وغرف التحقيق. أما أن يكون هذا الكائن البشري إنساناً، يعيش حياته بحرية، ويحب يهودية (يا للهول)، فذلك مما ترفض أن تستوعبه هذه العقلية المترعة بالتمييز والفاشية.
ولعل أطرف المفارقات، التي تتكرر بحذافيرها مع كل قرار حظر كتاب أو مصادرة رواية أو منع ديوان شعر، في أي زمان أو مكان، أن مثل هذا القرار الطائش يؤدي، دائما وأبدا، إلى إشهار المادة الممنوعة، وزيادة الإقبال عليها، على الأقل من باب حب الاستطلاع وتفعيل الحق في حرية الاختيار. وذلك على نحو ما حدث مع رواية "جدار حيّ" التي نفدت باقي كميتها من المكتبات الإسرائيلية، في غضون عشر ساعات من قرار سحبها من منهاج وزارة تعليم ذات ميول عنصرية، تربي أجيالا متعاقبة على الحقد والكراهية "للأغيار"، فما بالك إذا كان هذا الغير عربياً فلسطينيا، وكان ذا ذائقة فنية مرهفة!