غنائم الحرب: معادلة القمع والتطرف في غزة المحاصرة

طفل فلسطيني على أكتاف والده في مناسبة مؤيدة لحماس في غزة - (أرشيفية)
طفل فلسطيني على أكتاف والده في مناسبة مؤيدة لحماس في غزة - (أرشيفية)

جوليا أماليا هيير - (ديرشبيغل) 11/8/2014

 ترجمة: عبد الرحمن الحسيني

رفح، قطاع غزة- لحق دمار كبير بقطاع غزة جراء الحرب الدائرة هناك. وبالإضافة إلى الفقدان المرعب للأرواح وتدمير الممتلكات، دفعت الحرب المزيد من الفلسطينيين للارتماء في أحضان غلاة المتطرفين.اضافة اعلان
* * *
تتدلى قطعة من إطار سرير من شجرة ليمون. وإلى الجوار منها تظهر بقايا رفوف مهشمة، ألقي بها في داخل الحديقة الصغيرة بفعل انفجار قنبلة. وقد صدّع التفجير منزل حسن خليل الأبرش، مسقطاً الجدران الملونة بلون المندرين، ومحولاً غرفة نومه إلى شرفة ذات إطلالة بشعة. وتعكس عيناه الإرهاق الذي أصابه بينما يقف الأبرش وهو يضع في قدميه "شبشباً" وسط المخلفات المتفحمة. وإلى جواره، تصعد اثنتا عشرة درجة في اتجاه السماء، مثل تمثال غير مكتمل.
لا يحيط بالأبرش شيء غير الدمار، حيث يتصاعد الغبار من الركام الرمادي في حرارة منتصف النهار. فقد جرفت القذائف الإسرائيلية تقريباً كل الحي الذي يقطنه الأبرش في رفح، البلدة التي تقع في أقصى جنوب قطاع غزة.
لطالما كان الأبرش وعائلته غير متأكدين مما إذا كانوا سيعودون لرؤية ما تبقى من منزلهم، والآن، أصبحوا الوحيدين في المنطقة، بينما يحاولون استخلاص شيء من الركام. وقد جاء الأبرش مع زوجتي ابنيه، مايسة ونبيلة، وأحفاده. وكانت النساء قد أملن أن يكون قد تبقى من البيت ما يكفي للعيش فيه، بحيث تستطيع العائلة الانتقال من صف المدرسة الابتدائية الذي كانت قد التجأت إليه، وتتقاسمه راهناً مع خمس عائلات أخرى. والفصل الدراسي قذر وتنبعث منه رائحة كريهة -كما تسقط القنابل هناك أيضاً على الرغم من أن علم الأمم المتحدة يرفرف في الخارج.
يقول حسن الأبرش أنه لا يعتزم العودة أبداً إلى تلك الغرفة في المدرسة. لكن النساء يهززن رؤوسهن. وتقول مايسة: "كيف يمكننا العيش في هذا الركام؟"
شهدت عطلة نهاية الأسبوع المزيد من القتال في قطاع غزة، حيث كانت طائرات (إف- 16) الإسرائيلية الحربية تطير على علو منخفض فوق مدينة غزة صباح الجمعة بعد وقف إطلاق النار. ويوم الاثنين، بدا أن وقفاً جديداً لإطلاق النار مدته 72 ساعة ما يزال صامداً، لكن الأمل في غزة كان ضعيفاً. كما أن التهدئة في الأسبوع الماضي كانت هزيلة بالرغم من الإنهاك الذي حل بالسكان بعد أسابيع من القتال العقابي. ويريد الناس السلام، لكن المتشددين في حماس استأنفوا إطلاق الصواريخ عبر الحدود، عالقين في المنطق القاسي الذي يحكم أولئك الذين لم يبق لديهم شيء ليخسروه. وقد استمر العنف على مدار عطلة نهاية الأسبوع.
بعد مغادرته القاهرة صباح الجمعة الذي سبق إعداد هذا التقرير، عاد الوفد الإسرائيلي الآن لاستئناف محادثات السلام حول غزة. وكانت المفاوضات قد انهارت في الأسبوع الماضي في جزء منها بسبب عدم رغبة إسرائيل في تقديم أي تنازلات خشية إعطاء حماس ذريعة لإعلان انتصارها. وبشكل خاص، طالبت حماس بفتح الحدود، وهي رغبة يشاركها فيها كل أولئك الموجودين في قطاع غزة.
التوجه إلى البيت خلال وقف إطلاق النار
فوق كل شيء آخر، أظهرت هذه الحرب أنه ما من حل عسكري لمشكلة غزة. فكل مواجهة في الأعوام الأخيرة وكل جولة جديدة من عمليات القتل المتبادلة دفعت المزيد من الناس نحو المتطرفين. وليست هناك طريقة لتحسين ظروف المعيشة في قطاع غزة، وسيكون من مصلحة إسرائيل الاعتراف بتلك الحتمية.
لم تكن عودة عائلة الأبرش إلى حيهم في رفح في الأسبوع الماضي هي الأولى خلال القتال للاستفادة من وقف إطلاق النار. فقبل عشرة أيام، أعلنت حماس وإسرائيل عن تهدئة أثبتت أنها قصيرة الأمد جداً. وانتهى المطاف بأفراد العائلة وهم يحتمون في مطبخهم، الغرفة الوحيدة التي لا تواجه الحدود الإسرائيلية: وكان صوت القصف يصم الآذان، حيث أصبحت الانفجارات أقرب مما كانت عليه من قبل. وعند نقطة ما، نظرت ابنة نبيلة من النافذة فشاهدت عربة مدرعة تقترب من بيتهم. وهكذا، أخذت العائلة حمارها واتجهت إلى مدرسة الأمم المتحدة على جناح السرعة.
لكن سرعان ما انفك أول وقف لإطلاق النار ليتحول إلى يومين من القصف الدائم تقريباً في رفح. وجاء الهجوم فيما كان الجيش الإسرائيلي يبحث عن هادار غولدن، الجندي البالغ من العمر 23 عاماً الذي اعتُقد بأنه قد وقع أسيراً بيد حماس. وكان القتال الذي أعقب ذلك مثيراً للجدل ومميتاً على حد سواء، حيث فقد الفلسطينيون أكثر من 130 شخصاً.
كما تم قصف مدرسة الأمم المتحدة، ودمرت ضواحٍ بأكملها بما فيها ضاحية عائلة الأبرش.
كان هناك العديد جداً من الموتى لدرجة اللجوء إلى إفراغ ثلاجات المحلات من محتوياتها لوضع الجثث فيها. وبالنظر إليه، يبدو ذلك الهجوم الكبير أقرب إلى الانتقام لشيء لم يحدث أبداً. وفي نشرة صحفية مبكرة يوم الأحد، أعلن الجيش الإسرائيلي بشكل مفاجئ أن غولدن قتل ولم يختطف.
جاء الإعلان بعد أن كانت إسرائيل قد طبقت ما يسمى "بروتوكول هانيبال"، وهو بروتوكول للجيش الإسرائيلي صمم لمنع اختطاف الجنود الإسرائيليين خلال القتال. وكانت النتيجة صب نيران المدفعية المستمر على المناطق السكنية. ولم يفعل إعلان حماس أنها لم تأسر الجندي لم أي شيء لتغيير القصف المكثف على رفح. وقد دانت الحكومة الأميركية والأمم المتحدة الهجمات، وطالبتا بأن تجري قوات الدفاع الإسرائيلية تحقيقاً سريعاً في الهجوم. وستتركز الأسئلة الرئيسية على متى عرف الجيش بأن غولدن قد قتل ولم يختطف، ولماذا استمر في إطلاق النار مع ذلك.
دمار كثيف، وإعادة إعمار مكلفة
في تأريخ هذه الحرب التي استمرت فترة أطول من أي حرب أخرى بين إسرائيل وحماس، ربما تكون رفح أكثر فصولها رعباً. لكن القتال كان وحشياً في كل مكان آخر أيضاً، حيث فقد أكثر من 2000 فلسطيني أرواحهم، والغالبية منهم من المدنيين. وقتل نحو 250 طفلاً غالبيتهم دون عمر 12 عاماً. وفي الجانب الإسرائيلي، قتل نحو 64 جندياً وثلاثة مدنيين.
كان الدمار والمعاناة اللذان حلا بالمواطنين في قطاع غزة الضيق نتيجة هذه الحرب فادحين. وباتت مدينة بأكملها وأحياء كاملة بالقرب من الحدود الشرقية مع إسرائيل مدمرة تماماً وكأنها قد دمرت بفعل زلزال قوي. وقد قتلت مئات العائلات وفقد أكثر من 100.000 شخص منازلهم. وستستغرق عملية إعادة الإعمار أعواماً وستكلف المليارات.
بينما كان حسن الأبرش يتفقد الركام حيث كان منزله يقف ذات مرة، وينظر بين الفينة والأخرى إلى السماء في محاولة لتخمين المخاطر المحتملة المحدقة بعائلته، يجلس محمد الشيخ، 57 عاماً، في مكتبه على بعد كيلومترين. وهو مدير المدرسة في رفح التي كانت تؤوي السكان المشردين في رفح طيلة فترة الصراع -وواحدة من سبع مدارس تعرضت للقصف من جانب الجيش الإسرائيلي بالرغم من أنها توفر ملاذاً لآلاف اللاجئين المدنيين. وكان عشرة أشخاص قد قتلوا في مدرسة الشيخ، خمسة منهم أطفال. ويقول إنه يرسل إحداثيات نظام الموقع الجغرافي GPS الخاصة بمدرسته مرتين كل يوم للجيش الإسرائيلي.
يهز الشيخ كتفيه ويعدل نظاراته. ومع أنه ليس مخولاً بالحديث عن الهجوم على مدرسته، فإن لديه الكثير ليقوله عن تأثير الحرب على أولاده الستة. ويقول إن جيله مختلف تماماً عن الجيل الحالي. وكان دائماً يأمل بأن تتغير الحالة في قطاع غزة يوما ما وأن يسود السلام، أو شيء من الحياة الطبيعية على الأقل.
يقول الشيخ إن أولاده فقدوا الأمل بعد أن شهدوا ثلاث حروب اندلعت في فترة ترعرعهم. ويضيف أنهم قد تحولوا إلى التطرف بعد ما اختبروه وهم عالقون في مستنقع قطاع غزة. ويشرح بالقول أنه حاول أن يبين لهم أن من الممكن عيش حياة طبيعية، لكنه فشل في ذلك بسبب الحروب. وخالطت صوته نبرة استياء.
يقول الشيخ: "لقد رأوا أنهم وحدهم، وأنه ليس هناك أحد لمساعدتهم وأنهم لم يعودوا في مأمن في أي مكان يوجدون فيه". ويضيف: "لم يعد لدى هذا الجيل أي شيء ليعيش من أجله". ويشير إلى أنه شاهد فتيات صغيرات، ربما في الصفوف الأولى، وهن يرسمن نجمة داود في الرمال ويكتبن أسفل منها "الموت". وهذا الصباح وحسب، شاهد ثلاثة أطفال، لا يتجاوز عمر أكبرهم سبعة أعوام، وهم يلعبون لعبة "الشهيد" في حديقة المدرسة. يستلقى أحدهم على الأرض فوق قطعة من الليف ويقلد الميت، بينما يشهر الولدان الآخران "أسلحتهما" احتفاء وهما يهتفان: "شهيد! شهيد". ويهتف أحد الأطفال: "سنهزمك يا إسرائيل!".
أما محمد محسن العجمي، 67 عاماً، فإن لعبة ابنه هي الواقع. والعجمي هو والد مقاتل حماس الذي استشهد، "أبو شديد" كما يكنّى هؤلاء المقاتلون في الغالب. وبينما كان يجلس في شرفة منزله المظللة في بيت لاهيا، البلدة التي تقع في شمالي قطاع غزة، انفجرت قنبلة في ساحة المنزل خلال القتال. وكان ابنه طارق، 25 عاماً، قد انضم إلى المقاومة وفقد حياته مقاتلاً في الخطوط الأمامية، ولا يعرف العجمي أين بالضبط. فقد تلقى مكالمة هاتفية تبلغه بالخبر وتطلب منه التعرف على جثة ابنه. وكان طارق مسجى في ثلاجة وجسده مثخن بالجروح وبالشظايا.
الاستمرار في القتال
يقول العجمي إن طارق كان قد جاء إليه وإلى زوجته في إحدى الليالي للاستئذان منه، واحتضن والده وقبّل والدته. قال لهما ابنه أن عليه الذهاب، "أطال الله عمركما". ويقول الوالد بهدوء وقد انطوت يداه في حضنه، إن طارق مات من أجل غزة. ويتساءل مستنكراً: وماذا كان يمكنه أن يفعل؟ لم يكن يتوافر على نقود ولا على وظيفة بالرغم من أنه أمضى سنوات يبحث عن عمل. وفي النهاية، كما يقول والده، لم يعد عند طارق حتى أحلام بمستقبل أفضل. كان هناك البحر وحسب، حيث كان يحب الذهاب للسباحة.
يقول العجمي أن ابنه كان يقاتل من أجل رفع الحصار عن غزة، ومن أجل إنهاء الاحتلال، "من أجل العيش في نهاية المطاف حياة طبيعية مثل الشعوب الأخرى في العالم." ويقول إن موت محمد أبو خضير -المراهق الذي اختطفه متطرفون إسرائيليون في تموز (يوليو) وقتلوه (حرقاً وهو حي) قد قض مضاجع طارق بشكل خاص. وعندما أرسل الجيش الإسرائيلي دباباته وعرباته المدرعة إلى داخل قطاع غزة، قرر طارق القتال.
يقول والد طارق وقد لف الحزن نبرة صوته الآن أن نجله قد فعل الشيء الصحيح. ويضيف: "كل مَن يعيش حياة مثل حياتنا يتوجب عليه إرسال ابنه إلى المعركة". لكنه لم يشجع ابنه على حمل السلاح، كما يصر على القول. أما إخوته السبعة الآخرون فكلهم متزوجون ولهم أولاد. ليس من السهل في هذه الأيام العثور على أعضاء عائلات من حماس، والأقل من ذلك المقاتلين أنفسهم. فقد حظرت حماس توجيه الأسئلة عن "المقاومة" وهي تحث المواطنين على تجنب عرض الصور وإجراء المقابلات وتقديم الأجوبة.
لا يشعر محمد العجمي ولا زوجته بالانزعاج من هذا التوجيه. وبالرغم من أن الفراق مؤلم، كما تقول والدة طارق، فإن ابنها كان شجاعاً. وتقول: "إننا نريد حدوداً مفتوحة ونريد أن نكون قادرين على العمل في حقولنا وجني محصولنا". وتضيف أن هذا الأمر لم يكن ممكناً لفترة طويلة. وتربت على رأس أحد أحفادها، الذي قد يكون له من العمر خمسة أعوام، وتقول: "ربما سيترتب عليهم هم أيضاً الاستمرار في القتال".

*نشر هذا التقرير تحت عنوان:
 The Spoils of War

[email protected]

abdrahamanalhuseini@