"يوم كولومبوس": تمجيد الجشع، والعبودية، والإبادة الجماعية

تمثال للمستكشف كريستوفر كولومبوس – (أرشيفية)
تمثال للمستكشف كريستوفر كولومبوس – (أرشيفية)

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

آيبيك س. بيرنيت – (كاونتربنتش) 8/10/2018

لطالما شكل كريستوفر كولمبوس رمزا وطنيا للولايات المتحدة الأميركية. وبالإضافة إلى تكريمه بإطلاق اسمه على أماكن أكثر من أي شخصية أخرى في التاريخ الأميركي -ربما باستثناء جورج واشنطن- فإنه يحظى بالإشادة كمستكشف عظيم –شجاع، وحازم، ومنتصر. وإذا كان كولومبوس يشكل هذا البطل في المخلية الأميركية، وأحد أهم الأسلاف في هذا البلد، فإن أميركا تحتاج في اليوم المخصص للاحتفال به إلى تأمل كامل تراثه: منتهى الغطرسة، والشجع والعنف.
في العام 1492، بينما كان يبحر عبر المحيط الأطلسي، كان كريستوفر كولومبوس واثقاً مما يوجد أمامه: الثروة والشهرة له؛ وإمبراطورية استعمارية لإسبانيا؛ ومتحولون إلى الكنيسة المسيحية. ومع ذلك، جزيرة بعد جزيرة ظهرت آثار صغيرة فقط للذهب، وليست تلك المناجم الهائلة العميقة التي توقعها كولومبوس. ثم مرة أخرى، بما أنه كان قد وعد الملك فرديناند والملكة إيزابيلا بجلب الثروات من الشرق، لم يستطع كولومبوس أن يعيد الأساطيل بلا شيء يعرضه ببساطة. وهكذا، بدأ غارة العبيد الكبيرة.
في أولى رحلاته، وفي المكان الذي نعرف اليوم أنه كان جزر البهاما، واجه كولومبوس شعب التاينو. ولدى الالتقاء بهم على الشاطئ، وصفهم في مذكراته بأنهم مضيافون، حسنو النية، وسيمون، عراة، وسهلو القياد. وفي نفس المقطع تقريباً، كتب: "ينبغي أن يكونوا خدماً جيدين بمهارة جيدة... أعتقد أن بالوسع جعلهم مسيحيين بسهولة". وهكذا، حتى بينما كان يمتدح لطف وكرم السكان الأصليين، كان كولومبوس قد شرع في التفكير في استرقاقهم، ملاحظاً: "بخمسين رجلاً يمكن إخضاعهم كلهم وجعلهم يفعلون كل ما يريده المرء".
في العام 1495، خلال رحلته الثانية، جمع كولومبوس ورجاله ألفاً وخمسمائة من رجال ونساء وأولاد شعب الأراواك كأسرى؛ ومن هؤلاء، تم وضع خمسمائة رجل وامرأة أقوياء على ظهور السفن. ثم أعلن كولومبوس أن بوسع أي مسيحي أن يتفضل بأخذ أي عدد يريده من الأسرى المتبقين. وتم وضع السكان الأصليين على السفن في زرائب. ومن الخمسمائة، مات نحو مائتين على الطريق. وعمل الذين أُخِذوا عبيداً بوتيرة مجنونة في الأراضي التي استولى عليها المستعمرون لأنفسهم، وماتوا بالمئات.
على الرغم من كل الأدلة المناقضة، لم يكن كولومبوس قد استسلم بشأن الذهب، أيضاً. ومرة أخرى خلال رحلته الثانية، في منطقة كيكاو في هاييتي، أمر كل رجال الأراواك ونساءهم من عمر أربعة عشر عاماً فصاعداً بالعثور على الذهب. وعندما جمعوا وسلموا حصتهم لواحد من المواقع العسكرية، تقرر منحهم رموزاً نحاسية ليعلقوها حول أعناقهم كدليل على العمل الذي أنجزوه. وتقرر معاقبة أولئك الذين لا يحملون القطع النحاسية عن عدم تسليمهم الذهب.
كما يقول هوارد زِنْ، فإن الحقيقة هي أن شعب الأراواك كانوا يكلَّفون بمهمة مستحيلة. لم يكن هناك ببساطة ما يكفي من الذهب على الأرض. وقد حاول البعض منهم، وقد وجدوا أنفسهم بلا حيلة تماماً، أن يهربوا إلى الجبال. وتمت مطاردتهم بالكلاب، وإذا عُثر عليهم كانوا يُقتلون على الفور.
بحلول الرحلة الثالثة، كان بعض رجال كولومبوس قد أصبحوا مستائين. كانوا قد تعبوا من الأحوال الشاقة –المرض، والجوع، والعواصف، والصراعات مع السكان الأصليين- وأُحبِطوا بسبب قلة الذهب والثروات الأخرى الموعودة. ووصلت شكاواهم عن سياسات كولومبوس وممارساته الاستبدادية أخيراً إلى آذان الملك فرديناند والملكة إيزابيلا. وكان الملك والملكة يشعران مسبقاً بالخيبة من العوائد الضئيلة التي تلقياها من الرحلات، ولذلك قررا إصدار الأمر باعتقال الأدميرال. وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1500، قُيد كولومبوس بالسلاسل وأعيد إلى إسبانيا.
في أعقاب هذه العودة المهينة إلى إسبانيا، كتب كولومبوس "كتاب النبوءات"، الذي يتأمل فيه الأهمية الكونية والغاية الإلهية من رحلاته. ووسط الخليط غير المتساوق من الاقتباسات من الكتاب المقدس، ولاهوت العصور الوسطى، والصوفية، والكونيات المعقدة، أراد كولومبوس إيصال رسالة أساسية واحدة: "كان كريستوبال كولون مختاراً من الرب ليكون الأداة المقدسة لتحقيق النبوءات القديمة، التي ستنقذ المسيحية قبل نهاية العالم". وبرأي المؤرخ وكاتب سيرة كولومبوس، كيكباتريك سيل، فإن "كتاب النبوءات"، وهو مزيج فوضوي من الوثائق بمقدمة غير متماسكة، قوبل من معظم كتاب سيرة كولومبوس باعتباره "إحراجاً كاملاً". وقد اختاروا، في جزئهم الأكبر، نسيانه أو غفرانه باعتباره نتاجاً لـ"هلوسة عقلية" أو "ذهول مؤقت مظلم وبائس".
مات كولومبوس، بكلمات وولت وايتمان، "عجوزاً ممزقاً ومحطماً"، بـ"قلب مُثقَل". ومع ذلك، وبالنظر إلى الوراء، سيكون عملاً غير مسؤول اعتبار كرب كولومبوس النفسي ظاهرة فردية معزولة، لأن تداعيات أوهامه لم تكن مقتصرة عليه وحده. فقد استمر الطغيان وسفك الدماء اللذان بدءا مع حملات كولومبوس لقرون لاحقة، ولطخا تواريخ قارتي أميركا الشمالية والجنوبية على حد سواء. وخلال كل هذا الوقت، استمر الاسترقاق، والإبادة الجماعية، وتدمير الأرض مراراً وتكراراً باسم الحضارة والتقدم -وربما الأهم من كل شيء، باسم الإرادة الإلهية. وإذا كان كولومبوس مسكوناً بأوهام الاستثنائية والاستحقاق الروحي، فكذلك كان حال الأجيال التي جاءت إلى "العالم الجديد" سائرة على خطاه.
في مقالتها "كولومبوس: ذهب، وإنما لم يُنسَ"، تحثُّ الكاتبة بيل هوكس الأميركيين على استنطاق الماضي بطريقة نقدية، وإعادة التفكير في معنى إرث كولومبوس. وهي تعتقد بأن الطريقة التي يتم بها تعليم تاريخ كولومبوس وتذكره ثقافياً تلقي بظلال كبيرة على الوعي الأميركي، بطريقة تعيد التأكيد على الالتزام الوطني بالإمبريالية والتفوقية البيضاء. كما تؤكد على أن التمجيد الثقافي لما يدعى اكتشاف كولومبوس يعني إضفاء الطابع الرومانسي على الظلم، والفساد، وحتى القتل والاغتصاب.
وإذا لم يكن ثمة شيء، فإن "يوم كولومبوس" يعرض فرصة لتسمية هذه الأعمال الوحشية بأسمائها، ونعي هذه الحقائق العنيفة للتاريخ.

*نشر هذا الموضوع تحت عنوان: Columbus Day: Romancing Greed, Slavery, and Genocide

اضافة اعلان

[email protected]