المهموم!

د.لانا مامكغ لمحَ وجود بيانو في زاويةِ الصّالون خلال زيارته الثّانية لها أثناء فترةِ الخطبة، فاقتربَ منه بدهشة ليسمعَها تقول:” هذا لوالدي الذي كان يعزفُ عليه بعد انتقالِنا للسّكن هنا، حين كانت المنطقةُ خاليةً من البيوتِ والسكّان، لكن الآن، وبعد الاكتظاظ حولنا، لم يعد يجرؤ على ممارسة شغفه ذاك خشيةَ أن يضيقَ الجيرانُ بصوتِ الموسيقا!” بعد مدّة تزوّجا، فلاحظَ أنّها تغنّي معظم الوقت، تدندنُ بصوتٍ جذّاب أغنياتٍ لا يعرفُها، ولم يسبقْ له أنْ سمعها، لكن بدأ يستمتعُ بها ويطرب، سألَ فأجابت أنَّها أخذت هذه العادة عن والدتِها التي وجّهت ذائقتها نحو هذا النّوع من النّصوص، والألحانِ الذّهبيّة العتيقة! رُزِقا بطفلِهما الأوّل، ولم تمضِ سّنواتٌ قليلة من التحاقه بالمدرسة، حتّى لاحظَ ميلَ الصّغيرِ للرّقص… كان ماهراً بأداءِ الدّبكةِ بأنواعها كافّة، فحقّقّ حضوراً باهراً في الفعاليّات الطّلابيّة، وفي المناسبات الاجتماعيّة… إلى أنْ اقتربَ منه أحدُهم ذات مرّة ليقول: “ما شاء الله، ابنك هذا موهوبٌ جدّاً، يتمتّعُ بتناسقٍ عضليّ عصبيّ بديعٍ للغاية… سيكونُ له شأنٌ عظيم في الرّياضة، أو في عالم الفنون!” شعرَ بشىءٍ من القلق، وفيما بدا أنّها فهمت ما يدورُ في ذهنه ذلك اليوم، طمأنته بالقول إنّه متفوّقٌ في دراسته، ثمَّ أشارتْ إلى أنَّ فنَّ الدّبكةِ كفيلٌ بتعليم الصّغير جمالَ الأداءِ الجماعي الذي يتصدّى لمرض الفرديّة… عدا عن أنَّ التّقاربَ بين الرّاقصين يحقّقُ تواصلاً إنسانيّاً صحيّاً بينهم، فاليدُ باليد، والكتفُ بالكتف كما هي الفنونُ الشّعبيّةُ التي نتنكّرُ لها أحياناً! ولم يكدْ يصحو من دهشتِه، حتّى كان ابنُه الآخر قد كبر نسبيّاً، وبدأ بتلقّي دروسَ العزفِ على البيانو خلال العطلِ… ثمَّ ليقضيَ وقتَه في غرفته يستمعُ إلى سمفونيّاتٍ عالميّة! كان يجلسُ أحياناً يتأمّلُ ما يحدث، دون أنْ يعرفَ إن كان عليه أنْ يفرحَ أم يحزن لأنّ ولديْه لم يرثا من جيناته شيئاً، ثمَّ ليجيبَ: «أيّ جيناتٍ هذه… فإذا كان للتّجهم، والعبوس، والبرودِ، والجمود… كروموسوماتٌ مسؤولةٌ عن صناعةِ الحياةِ الرّتيبة العمليّة الجافّة، مثل حياته هو، فحمداً لله أنّها لم تتسلّل إلى ابنيه، ها هو بيتُه مليءٌ بالفنِّ، والفرحِ، والحيويّةِ، والحياةِ…” ليعودَ ويسألَ نفسَه بِحَيْرة: لكن، لماذا اختارتُه هذه المخلوقةُ المهذّبة؟ فهو كائنٌ وافدٌ من كوكبٍ آخر قياساً مع تكوينِها، وإيقاع حياتها، ونمطِ تربيتها، وتلك الطّاقةِ السّاحرةِ الجميلة التي تبثّها فيمن حولها … ذات ليلة، وجدَها تخبره، بفرح، أنّها حامل… وقبل أنْ يُعلّق، قالت بحماسة: “كم أتمنّى لو نرزقُ ببنتٍ هذه المرّة، وأن تختارَ دراسةَ المسرح، والتّمثيل… تصوّر!” ابتلعَ ريقَه بصعوبة، وكادَ يُقاطعُها حين أضافت: “هل تعرفُ ماذا يعني هذا؟ ستكونُ شابّةً تملكُ الطّلاقةَ اللغويّة، والرّشاقة، والتّصالحَ مع الجسد، والقدرةَ على التّعبيرِالإيمائي، والوقوفَ أمام الجمهور بثقةٍ واقتدار، كما سيتسنّى لها الاطّلاعُ على تاريخِ المسرحِ العالمي، سأكونُ معها وأشجّعُها، أجزمُ أنّها ستدخلُ عالمَ الشّهرةِ بسهولة… وتصبح ممثّلةً معروفة! من ليلتِها، وهو قلقٌ مؤرَّقٌ مهموم… وما يزال يدعو الله، حتّى الّلحظة، أن تكونَ حاملاً بولد! المقال السابق للكاتبة للمزيد من مقالات الكاتبة انقر هنااضافة اعلان