هل يرتقي الإعلام إلى مستوى الحدث؟

علاء الدين أبو زينة- يقول زميل صحفي متندرًا: «عندما يعرف الناس أنني صحفي، يسألونني عن حقيقة ما يحدث محليًا أو في المنطقة أو العالم، وما الذي سيأتي- وكأنني أعرف»! لا شك في أن سيل الأحداث ونوعية التحولات التي تحدث على كافة المستويات مربكة والوجهات غير قابلة للتوقع. لكن الصحفي يمكن أن الصحفي أفضل لأن مادة عمله هي المعلومات. ويعني سؤال الناس له شيئين على الأقل: افتراض الناس أن تكون لدى الصحفي/ الصحافة معلومات لا يقرأونها أو يسمعونها في الصحف والمواقع الإلكترونية والإعلام المسموع والمرئي؛ وأنهم محتارون أمام الأحداث ويحتاجون إلى مساعدة في قراءتها وتشبيكها. وفي كل الأحوال، سيعني الشيئان قصورًا في عمل الإعلام، سواء في طريقة معالجة المعلومة كأن يعرضها خاماً كما هي أو مقطوعة من سياقها؛ أو في نوعها، كأن تكون هامشية، في حين يتم تجنب الخوض في جواهر الحقائق بسبب الحساسيات. في الحقيقة، لا يُتوقع من الصحافة أن تكون كلية المعرفة، ولو أنها مطالبة بأن تقترب ما وسعها ذلك. لكنها تستطيع بالتأكيد أن تكون منصة تعرض- بالإضافة إلى الأخبار- أكبر طيف ممكن من الرؤى والقراءات، بحيث يُتاح للمتلقي أن يستنير بما يحقق فهمه الخاص. في عصر الإنترنت، وبرغم أي رقابة، توجد الأخبار في كل مكان. والقصص على قارعة الطريق. لكن تقديمها خامًا كما هي– إذا تم نقلها كلها من الأساس- ليس كافيًا لتقليل الحيرة وإنارة ما أمكن من تضاريس الطريق إلى الأمام. من المفروغ منه أن شرط حرية التعبير هو أساس فعالية الإعلام. إنك إذا كنتَ تعرف الأشياء المهمة، لكنك لا تستطيع أن تقول ما تعرف، فإنك ستتحدث في الثانويات. وإذا اقتربت من الجوهريات، فبالتلميح دون التصريح ومن دون تسمية الأشياء بأسمائها، فلا يجد مستمعوك عندك سوى المزيد من الحيرة. إنك لا تخفي المعلومة فحسب، وإنما تتنصل من مهمة التحليل والتفسير المتوازن والعميق الذي يجب أن يرافق إعلان المعلومة، حتى تكون مصدر تنوير وفاتح نوافذ. الآن، تتسارع التطورات المحلية والإقليمية والدولية بأسرع مما يستطيع الفرد العادي أن يفهمه ويواكبه. في الإقليم، على سبيل المثال، ثمة الاتفاق المهم بين السعودية وإيران اللتين أثّر صراعهما بقوة على ديناميات المنطقة كلها لسنوات. ومن المهم ملاحظة دور الوسيط الصيني الذي يصعد قطبه في النظام العالمي. وهناك إعادة ترتيب مهمة للعلاقات الإقليمية، تتضمن تركيا ومصر ومنطقة الخليج. وهناك التطورات في شمال أفريقيا، والسودان، وفي ملفي سورية واليمن. ثمة اتجاهات إلى إعادة دمج سورية في الإقليم وربما إنهاء صراع اليمن الكارثي. وهناك الاضطراب في الكيان الصهيوني والظهور الذي لا يمكن إنكاره لطبيعته الاستبدادية والعدوانية– وربما الحاجة إلى إعادة النظر في العلاقات الرسمية معه. وهناك، على مستوى مهم، اتجاهات إلى التحديث في مجتعات إقليمية مؤثرة كانت لوقت طويل مقاومة للحداثة. وهناك إدراك جديد في الإقليم لضرورة تنويع الخيارات والتحرر من الولاءات التقليدي. وهناك عالميًا الحرب الروسية-الأوكرانية التي فتحت الكثير من الاحتمالات وفرضت نوعاً من إعادة فرز التحالفات والتوقعات ومراجعة الخيارات. ويتعلق هذا الملف بتطورات أوسع في تقسيمة النفوذ العالمي، ونهوض قوى ومعسكرات ومنظمات من الأطراف تطرح نفسها كبدائل وتبشر بتصوراتها الخاصة وتسوق التعامل معها بشروط أيسر. وهناك العلامات التي يجري الحديث عنها منذ بعض الوقت على تراجع هيمنة الولايات المتحدة العالمية، وربما علاقتها بأوروبا والشرق الأوسط وبقية العالم. وهناك مسارات المنافسة/ الصراع بين أميركا والصين وما يمكن أن يعنيه ذلك لكل سكان الكوكب. من المؤكد أن الفرد يريد أن يفهم العالم الذي يعيش فيه، وكيف يمكن أن تؤثر تطوراته على حياته وآفاقه ومستقبل أبنائه. ولا يمكن الحديث عن أمم تستطيع التكيف مع التطورات عندما يكون مواطنوها مغيبين عن الحدث ولن يكون التجهيل والتعمية والتكتم وصفات مناسبة للتواجد في العالم المتغير. ينبغي أن يكون الإعلام العربي على مستوى الحدث. يجب أن ينخرط في إحالة الأمور إلى جذورها ويفسر جواهرها ويقوم بمهمة الربط، لأنه يُفترض أن يتمكن من جمع كل أجزاء الصورة. وبالإضافة إلى التحرر في إذاعة الأخبار، ما دامت حقيقية وحدثت، يجب أن يشتغل بالتفسير والتحليل والتنوير، وتفكيك التشابكات والعقد في العلاقات بين الأحداث لمساعدة الجمهور على الفهم- الفهم الصادق الموضوعي غير المصنّع. ينبغي التخلص من المحرّمات، التي منها عدم التحدث عن الآخرين بما فيهم وإنما لا يحبون سماعه – على الأقل لأننا نتأثر بقراراتهم وبدوافعها. وكما نرى في مناطق أخرى من العالم، فإن الإعلام العميق الفاهم لا يساعد فهم الجمهور فحسب، وإنما يساعد جدّا صُناع القرار الذين يستنيرون بالتحليلات والاقتراحات وطريقة تفكيك العلاقات. ولن يعمل الإعلام بفعالية إذا لم يُمنح رخصة الربط بين ما يحدث محلياً وما يحدث إقليمياً وعالميًا وكيف تؤثر قرارات الآخرين واختياراتهم على الداخل ولأي أسباب وبأي طريقة، تحت طائلة معاقبة الإعلامي والمؤسسة. إذا لم يشتغل الإعلام في إنارة الطرق وتوضيح الخرائط وفتح النوافذ، فإنه يخاطر بأن يبدو جاهلاً كليلاً لا يصلح لشيء. وإذا تكون انطباع لدى الجمهور بأن الإعلام ليس على دراية– إما لأنه يعرف ولا يقول أو أنه ممنوع من أن يقول أو ليس لديه ما يقول، فسوف يزدرونه. وفي النهاية، لن يكون الصحفيون والإعلاميون جديرين بأن يُسألوا عما يحدث لأنهم لا يعلمون، ولا عندهم معلومات ولا من يحزنون. المقال السابق للكاتب: المجد لراشيل كوري..!اضافة اعلان