إيلان بابيه: إنه الظلام قبل الفجر، الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي يبلغ نهايته‏

1711532615574426400
مسن فلسطيني يرفع العلم الوطني أمام جنود الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة - (أرشيفية)

إيلان بابيه* - (ذا بوليت) 16/2/2024

‏في 21 كانون الثاني (يناير) 2024، تحدث البروفيسور إيلان بابيه في يوم "الذكرى السنوية للإبادة الجماعية" الذي نظمته "اللجنة الإسلامية لحقوق الإنسان" Islamic Human Rights Commission’s (IHRC) في لندن، المملكة المتحدة.

اضافة اعلان

 

وركز في حديثه على الحاجة إلى فهم أن الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في حق الفلسطينيين التي نشهدها حاليا، بقدر ما هي وحشية، فإنها تؤشر أيضًا على زوال ما تسمى "الدولة اليهودية". وعلينا أن نكون مستعدين لتخيل عالم جديد بعدها.‏


*   *   *


ليست الفكرة عن كون الصهيونية مشروع استعمار استيطاني جديدة. كان الباحثون الفلسطينيون الذين يعملون في بيروت في "مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية" في ستينيات القرن الماضي قد فهموا تمامًا أن ما يواجهونه في فلسطين ليس مشروعاً استعمارياً كلاسيكياً. ولم يؤطروا إسرائيل على أنها مجرد مستعمرة بريطانية أو أميركية، وإنما اعتبروها منتمية إلى ظاهرة موجودة في أجزاء أخرى من العالم؛ تُعرَّف بأنها استعمار استيطاني. ومن الجدير ملاحظة أنه على مدى 20 إلى 30 عامًا، اختفت فكرة الصهيونية كاستعمار استيطاني من الخطاب السياسي والأكاديمي.

 

لكن هذه الفكرة عادت إلى الظهور عندما اتفق الباحثون في أجزاء أخرى من العالم، لا سيما جنوب أفريقيا وأستراليا وأميركا الشمالية، على أن الصهيونية هي ظاهرة مشابهة لحركة الأوروبيين الذين أنشأوا الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا. وتساعدنا هذه الفكرة على تحقيق فهم أفضل بكثير لطبيعة المشروع الصهيوني في فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى اليوم، وتعطينا فكرة عما يمكن أن نتوقعه في المستقبل.‏


‏‏أعتقد أن هذه الفكرة بالتحديد، التي برزت في تسعينيات القرن العشرين وربطت تصرفات المستوطنين الأوروبيين -خاصة في أماكن مثل أميركا الشمالية وأستراليا- مع تصرفات المستوطنين الذين جاؤوا إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، أظهرت بوضوح نوايا المستوطنين اليهود الذين استعمروا فلسطين وطبيعة المقاومة الفلسطينية المحلية لذلك الاستعمار.

 

وقد اتّبع المستوطنون المنطق الأهم الذي اعتمدته الحركات الاستعمارية الاستيطانية في كل مكان: أنه من أجل تأسيس مجتمع استعماري استيطاني ناجح خارج أوروبا، سيكون عليك القضاء على السكان الأصليين في البلد الذي تستقر فيه.

 

وهذا يعني أن مقاومة السكان الأصليين لهذا المنطق هي نضال ضد تعرضهم للإفناء، وليست مسألة تحرير فقط. وهذا مهم عندما يفكر المرء في العملية التي نفذتها "حماس" مؤخرًا وفي غيرها من عمليات المقاومة الفلسطينية منذ العام 1948.‏


المستوطنون‏

 

‏كان المستوطنون أنفسهم -كما كان الحال بالنسبة للعديد من الأوروبيين الذين جاؤوا إلى أميركا الشمالية أو أميركا الوسطى أو أستراليا- لاجئين وضحايا للاضطهاد. وكان بعضهم أفضل حظاً وكانوا يبحثون فقط عن حياة وفرص أفضل.

 

لكن معظمهم كانوا منبوذين في أوروبا وكانوا يتطلعون إلى إنشاء أوروبا أخرى في مكان آخر، أوروبا جديدة، بدلاً من تلك الأوروبا التي لا تريدهم. وفي معظم الحالات، اختاروا مكانًا يعيش فيه أناس آخرون مسبقًا؛ السكان الأصليون. وهكذا، كانت المجموعة الأساسية الأكثر أهمية بينهم هي مجموعة قادتهم ومنظريهم الذين وفروا مبررات دينية وثقافية لاستعمار أرض أناس آخرين. ويمكن للمرء أن يضيف إلى ذلك ضرورة الاعتماد على إمبراطورية لبدء الاستعمار وإدامته، حتى عندما تمرد المستوطِنون على الإمبراطورية التي ساعدتهم وطالبوا بالاستقلال عنها وحققوه، وهو ما حصلوا عليه في كثير من الأحيان ثم جددوا تحالفهم مع الإمبراطورية. وتشكل العلاقة الأنجلو-صهيونية التي تحولت إلى تحالف أنجلو-إسرائيلي مثالاً على ذلك.‏


ربما تكون فكرة أن بإمكانك القضاء على شعب الأرض التي تريدها بالقوة أكثر إمكانية لأن تُفهم -لا أن تُبرر- في سياقات القرون 16 و17 و18 لأنها سارت جنبًا إلى جنب مع مصادقة كاملة على ممارسة الإمبريالية والاستعمار. وقد تغذت هذه الفكرة على التجريد المشترك للشعوب الأخرى غير الغربية وغير الأوروبية من إنسانيتها.

 

وإذا جردتَ الناس من إنسانيتهم، فيمكنك القضاء عليهم بسهولة أكبر. لكنّ ما كان بالغ الفرادة في الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية هو أنها ظهرت على الساحة الدولية في وقت بدأ فيه الناس في جميع أنحاء العالم بإجراء مراجعة لفكرة الحقفي إزالة السكان الأصليين؛ القضاء على هؤلاء السكان، وبالتالي، يمكننا أن نفهم الجهد والطاقة اللذين استثمرهما الصهاينة -ولاحقًا دولة إسرائيل- في محاولة التغطية على الهدف الحقيقي لحركة استعمار استيطاني مثل الصهيونية، الذي هو القضاء على السكان الأصليين.‏


الصهيونية في غزة‏

 


‏لكن الصهاينة يقضون اليوم في غزة على السكان الأصليين أمام أعيننا، فكيف حدث أنهم تخلوا عن 75 عامًا تقريبًا من محاولة إخفاء سياساتهم الإقصائية؟ لفهم هذا التحول، ينبغي أن نقيّم التحول الذي حدث في طبيعة الصهيونية في فلسطين على مر السنين.‏


‏في المراحل الأولى من المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، نفذ قادته سياساتهم الإقصائية مع محاولة حقيقية لتربيع الدائرة عن طريق الادعاء بأن من الممكن بناء ديمقراطية، وفي الوقت نفسه القضاء على السكان الأصليين. كانت لديهم رغبة قوية في الانتماء إلى مجتمع الأمم المتحضرة، وافترض هؤلاء القادة، ولا سيما بعد الهولوكوست، أن سياسات الإقصاء لن تؤدي إلى إبعاد إسرائيل من ذلك المجتمع.‏


‏لتربيع هذه الدائرة، أصرت القيادة على أن إجراءاتها الإقصائية ضد الفلسطينيين كانت "انتقاماً" أو "رداً" على الأعمال الفلسطينية. ولكن، سرعان ما أرادت هذه القيادة الانتقال إلى إجراءات أكثر جوهرية للقضاء على الفلسطينيين، فتخلت عن ذريعة "الانتقام" الزائفة وتوقفت عن تبرير ما تفعل.


ثمة، في هذا السياق، تعالق واضح بين الطريقة التي تطوَّر بها التطهير العرقي للفلسطينيين في العام 1948 من جهة، والعمليات التي ينفذها الإسرائيليون اليوم في غزة اليوم.

 

في العام 1948، بررت القيادة لنفسها كل مجزرة ارتُكبت، بما في ذلك مذبحة دير ياسين سيئة السمعة في 9 نيسان (أبريل)، باعتبارها رد فعل على عمل فلسطيني: كان من الممكن أن يكون العمل إلقاء حجارة على حافلة أو مهاجمة مستوطنة يهودية، ولكن كان لا بد من تقديم المجازر، محلياً وخارجياً- على أنها لا تأتي من فراغ؛ أنها دفاع عن النفس.

 

وفي الحقيقة، كان هذا هو السبب في أن الجيش الإسرائيلي سُمي "قوات الدفاع الإسرائيلية". ولكن، لأن المشروع الصهيوني في فلسطين هو مشروع استعماري استيطاني، فإنه لا يمكن أن يعتمد كل الوقت على ذريعة "الانتقام".‏


‏نكبة 1948 ‏

 


‏بدأت القوات الصهيونية عمليات التطهير العرقي خلال النكبة في شباط (فبراير) 1948. وعلى مدى شهر، تم تقديم جميع هذه العمليات على أنها انتقام من المعارضة الفلسطينية لـ"خطة التقسيم" التي وضعتها الأمم المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1947.

 

وفي 10 آذار (مارس) 1948، توقفت القيادة الصهيونية عن الحديث عن الانتقام، واعتمدت خطة رئيسية للتطهير العرقي لفلسطين. ومن آذار (مارس) 1948 إلى نهاية ذلك العام، تم التطهير العرقي لفلسطين، الذي أدى إلى طرد نصف سكانها، وتدمير نصف قراها، ونزع العروبة عن معظم مدنها، كجزء من خطة رئيسية منهجية ومتعمدة للتطهير العرقي.‏


وبالمثل، بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في حزيران (يونيو) 1967، كلما أرادت إسرائيل تغيير الواقع تغييراً جذرياً أو الانخراط في عملية تطهير عرقي واسعة النطاق، كانت تتخلى عن الحاجة إلى تبرير.‏


‏ونحن نشهد نمطًا مماثلاً اليوم. في البداية، تم تقديم الأعمال الإسرائيلية في غزة على أنها انتقام من عملية "طوفان الأقصى"، لكنها أصبحت الآن الحرب المسماة "السيوف الحديدية" التي لا تهدف إلى إعادة غزة إلى السيطرة الإسرائيلية المباشرة فحسب، وإنما تطهير شعبها عرقياً من خلال حملة للإبادة الجماعية.‏


السؤال الكبير هو: لماذا وقع السياسيون والصحفيون والأكاديميون في الغرب في الفخ نفسه الذي كانوا قد وقعوا فيه في العام 1948؟ كيف يمكن أنهم ما يزالون يصدقون اليوم فكرة أن إسرائيل تدافع عن نفسها في قطاع غزة؟ أن ما تفعله هو رد فعل على أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر)؟‏


‏أو أنهم ربما لا يقعون في الفخ في الحقيقة. ربما يعرفون أن ما تفعله إسرائيل في غزة يستخدم عملية 7 تشرين الأول (أكتوبر) كذريعة.‏


الإبادة الجماعية‏

 

‏في كلتا الحالتين، حتى الآن، كان لجوء الإسرائيليين إلى ذريعة كل مرة يعتدون فيها على الفلسطينيين، قد ساعد الدولة على الاحتفاظ بدرع الحصانة الذي سمح لها بمواصلة سياساتها الإجرامية من دون خوف من أي رد فعل ذي مغزى من المجتمع الدولي. وقد ساعدت الذريعة على إظهار صورة إسرائيل كجزء من العالم الديمقراطي والغربي، وبالتالي تجنب أي إدانة أو عقوبات. كان خطاب الدفاع والانتقام هذا برمته مهماً دائماً لدرع الحصانة الذي تتمتع به إسرائيل وتحتمي من الحكومات في الشمال العالمي.‏


ولكن، كما حدث في العام 1948، تستغني إسرائيل اليوم أيضًا عن الذريعة مع استمرار عمليتها، وهو الوقت الذي يجد فيه حتى أكبر أنصارها صعوبة في تأييد سياساتها. لقد وصل حجم الدمار، وعمليات القتل الجماعي والإبادة الجماعية في غزة، إلى مستوى يجعل الإسرائيليين يجدون صعوبة متزايدة في إقناع -حتى أنفسهم- بأن ما يفعلونه هو في الحقيقة دفاع عن النفس أو رد فعل.

 

وبذلك، من الممكن أن يجد المزيد والمزيد من الناس في المستقبل صعوبة في قبول هذا التبرير الإسرائيلي للإبادة الجماعية التي تنفذها في غزة.‏


‏بالنسبة لمعظم الناس، أصبح من الواضح أن المطلوب هو السياق وليس الذريعة. ومن الواضح جداً، تاريخياً وأيديولوجياً، أن 7 تشرين الأول (أكتوبر) يُستخدم كذريعة لإكمال ما عجزت الحركة الصهيونية عن إكماله في العام 1948.‏


في العام 1948، استغلت الحركة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية مجموعة معينة من الظروف التاريخية التي كنتُ قد كتبت عنها بالتفصيل في كتابي ‏‏"التطهير العرقي لفلسطين‏‏"، من أجل طرد نصف سكان فلسطين.

 

وكما هو مذكور أعلاه، فقد دمروا في هذه العملية نصف القرى وهدموا معظم المدن الفلسطينية، ومع ذلك بقي نصف الفلسطينيين داخل فلسطين. والفلسطينيون الذين أصبحوا لاجئين خارج حدود فلسطين واصلوا المقاومة، وبالتالي لم يتحقق الوضع المثالي للمشروع الاستعماري الاستيطاني، المتمثل في القضاء على السكان الأصليين، واستخدمت إسرائيل تدريجيًا كل قوتها وكل ما هو تحت يدها، من العام 1948 وحتى اليوم، لمواصلة مهمة القضاء على السكان الأصليين.‏


إنك لا تستطيع القضاء على السكان الأصليين من البداية إلى النهاية بمجرد عملية عسكرية يمكنك بها احتلال مكان، أو ذبح الناس، أو طردهم. إن القضاء على الناس يحتاج إلى أن يتم تبريره أو أنه سينزع إلى الهمود، والطريقة للقيام بذلك هي التجريد المستمر لأولئك الذين تنوي القضاء عليهم من الإنسانية. لا يمكنك أن تقتل الناس على نطاق واسع أو أن تبيد إنساناً آخر ما لم تجرده من إنسانيته.

 

وهكذا، كان تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم رسالة، صريحة وضمنية، يتم بثها إلى اليهود الإسرائيليين من خلال نظامهم التعليمي، ونظام التنشئة الاجتماعية في الجيش، ووسائل الإعلام، والخطاب السياسي. وكان لا بد من نقل هذه الرسالة وإدامتها إذا ما أريد استكمال عملية القضاء على الفلسطينيين.‏


‏لذلك نشهد الآن محاولة جديدة قاسية بشكل خاص لإكمال عملية محو الفلسطينيين. لكنَّ الأمر ليس ميؤوسًا منه تمامًا.

 

في الواقع، من المفارقات أن هذا التدمير اللاإنساني لغزة يعرّي فشل المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. قد يبدو قول هذا سخيفًا لأنني أصف صراعًا بين حركة مقاومة صغيرة، حركة التحرير الفلسطينية، ودولة قوية ذات آلة عسكرية وبنية تحتية أيديولوجية عاكفة فقط على تدمير السكان الأصليين في فلسطين. كما أنه ليس لدى حركة التحرر هذه تحالف قوي يقف خلفها، في حين أن الدولة التي تواجهها هذه الحركة تتمتع بتحالف قوي يقف خلفها -من الولايات المتحدة، إلى الشركات متعددة الجنسيات وشركات أمن الصناعة العسكرية، ووسائل الإعلام الرئيسية والأوساط الأكاديمية السائدة.

 

إننا نتحدث عن شيء يبدو ميؤوسًا منه ومحبطًا لأن لديك هذه الحصانة الدولية لسياسات الإقصاء المبرم التي بدأت منذ المراحل الأولى للصهيونية وما تزال مستمرة حتى اليوم. وربما يبدو هذا أسوأ فصل في المحاولة الإسرائيلية لدفع سياسات الإقصاء إلى مستوى جديد؛ إلى جهد أكثر تركيزًا لقتل الآلاف من الناس في فترة زمنية قصيرة كما لم يجرؤ الإسرائيليون على أن يفعلوا من قبل.‏


‏كيف إذن يمكن أن تكون هذه أيضًا لحظة أمل؟ أولاً وقبل كل شيء، هذا النوع من الكيان السياسي، الدولة، الذي يتعين عليه الحفاظ على تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم من أجل تبرير القضاء عليهم هو كيان ذو أساس بالغ الهشاشة، إذا ما نظرنا إلى المستقبل الأبعد.‏


و‏كان هذا الضعف الهيكلي واضحًا مسبقًا قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر). وجزء من هذا الضعف هو حقيقة أنك إذا استبعدت مشروع القضاء على السكان الأصليين، يبقى لديك القليل جداً مما يمكن أن يوحد مجموعة الأشخاص الذين يعرِّفون أنفسهم بأنهم الأمة اليهودية في إسرائيل.‏


‏إذا استبعدت الحاجة إلى القتال والقضاء على الفلسطينيين، فإنك ستترك معسكرَين يهوديين متحاربين، رأيناهما يتقاتلان بالفعل في شوارع تل أبيب والقدس حتى 6 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

 

كانت هناك مظاهرات ضخمة لليهود العلمانيين، أولئك الذين يصفون أنفسهم بأنهم يهود علمانيون -معظمهم من أصل أوروبي- الذين يعتقدون أن من الممكن إنشاء دولة ديمقراطية تعددية مع الإبقاء على الاحتلال والفصل العنصري تجاه الفلسطينيين داخل إسرائيل، في مواجهة نوع جديد من الصهيونية المسيانية التي تطورت في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، -ما أسميته في مكان آخر دولة يهودا- التي ظهرت فجأة بيننا، والتي يعتقد معتنقوها أن لديهم الآن طريقة لخلق نوع من الثيوقراطية الصهيونية من دون أي اعتبار للديمقراطية، وأن هذه هي الرؤية الوحيدة الممكنة لدولة يهودية مستقبلية.‏


في الحقيقة، ليس ثمة ما هو مشترك بين هاتين الرؤيتين سوى شيء واحد: أن كلا المعسكرين لا يهتمان بالفلسطينيين، وكلا المعسكرين يعتقد أن بقاء إسرائيل يعتمد على استمرار سياسات الإقصاء تجاه الفلسطينيين للقضاء عليهم. وهذا الاتجاه لن يتمكن من الصمود.

 

إن هذا سيتفكك وينفجر من الداخل لأنه لا يمكنك أن تبقي، في القرن الحادي والعشرين، على دولة ومجتمع متماسكين معًا على أساس أن إحساسهما المشترك بالانتماء هو جزء من إبادة جماعية استئصالية. يمكن أن يعمل هذا مع البعض بالتأكيد، لكنه لا يمكن أن يعمل مع الجميع.‏


‏وقد رأينا بالفعل إشارة إلى ذلك قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر): شاهدنا كيف أن الإسرائيليين الذين لديهم فرص في أجزاء أخرى من العالم بسبب جنسيتهم المزدوجة ومهنهم وقدراتهم المالية، أخذوا يفكرون بجدية في نقل أموالهم وأنفسهم إلى خارج دولة إسرائيل.

 

وسيكون كل ما يتبقى لديك مجرد مجتمع ضعيف اقتصادياً، يقوده هذا النوع من الانصهار بين الصهيونية المسيانية، والعنصرية، والسياسات الإقصائية تجاه الفلسطينيين.

 

نعم، سوف يكون ميزان القوى في البداية إلى جانب الإزالة، وليس مع ضحايا الإزالة، لكن ميزان القوى ليس محلياً فقط. إن ميزان القوى إقليمي ودولي. وكلما كانت السياسات الإقصائية أكثر قمعًا (وهو شيء من الرهيب أن نقوله، ولكنه صحيح)، قلت القدرة على التستر عليها باعتبارها "رداً" أو "انتقاماً"، ونُظر إليها على أنها سياسة إبادة جماعية وحشية. وبالتالي، من غير المرجح أن تستمر الحصانة التي تتمتع بها إسرائيل اليوم في المستقبل.‏


‏لذلك، أعتقد حقاً أن ما نشهده في هذه اللحظة المظلمة للغاية -مظلمة لأن القضاء على الفلسطينيين انتقل إلى مستوى جديد- لم يسبق له مثيل. عندما يتعلق الأمر بالخطاب الذي تستخدمه إسرائيل، وقوة السياسات الإقصائية الإبادية والغرض منها -فإنها لم تكن هناك فترة مثل هذه الفترة في التاريخ.

 

هذه مرحلة جديدة من الوحشية ضد الفلسطينيين. وحتى النكبة، التي كانت كارثة لا يمكن تصورها، لا تقارن بما نراه الآن وما سنراه في الأشهر القليلة المقبلة. ونحن، في رأيي، في الأشهر الثلاثة الأولى فقط من فترة سنتين ستشهدان أسوأ أنواع الفظائع التي يمكن أن تلحقها إسرائيل بالفلسطينيين.‏


و‏لكن، حتى في هذه اللحظة المظلمة، يجب أن نفهم أن المشاريع الاستعمارية الاستيطانية التي تتفكك تستخدِم دائما أسوأ أنواع الوسائل لمحاولة إنقاذ مشروعها. حدث هذا في جنوب إفريقيا وجنوب فيتنام. وأنا لا أقول هذا كأمنية، ولا أقوله كناشط سياسي؛ إنني أقول هذا بصفتي باحثًا في إسرائيل وفلسطين، وبكل الثقة التي توفرها مؤهلاتي العلمية. وعلى أساس فحص مهني رصين، أقول إننا نشهد الآن نهاية المشروع الصهيوني؛ ليس ثمة أدنى شك في ذلك.‏


‏لقد وصل هذا المشروع التاريخي إلى نهايته، وهي نهاية عنيفة -مثلُ هذه المشاريع عادة ما تنهار بعنف، وهي لذلك لحظة خطيرة جدًا بالنسبة لضحايا هذا المشروع. والضحايا دائمًا هم الفلسطينيون، إلى جانب اليهود، لأن اليهود هم أيضًا ضحايا للصهيونية. وهكذا، فإن عملية الانهيار ليست مجرد لحظة أمل، بل إنها أيضًا الفجر الذي سيطلع بعد الظلام، وهي النور في نهاية النفق.‏


‏ومع ذلك، فإن مثل هذا الانهيار ينتج فراغًا. والفراغ يظهَر فجأة؛ إنه مثل جدار يتآكل ببطء بفعل الشقوق التي فيه، ولكنه ينهار بعد ذلك في لحظة واحدة قصيرة. وعلى المرء أن يكون مستعداً لمثل هذه الانهيارات؛ لاختفاء دولة أو تفكك مشروع استعماري استيطاني.

 

وقد رأينا ما حدث في العالم العربي عندما لم يتم ملء فوضى الفراغ بأي مشروع بنّاء بديل. في مثل هذه الحالة، تتواصل الفوضى فحسب.‏


‏ثمة شيء واحد واضح: أياً يكن مَن يفكر في بديل للدولة الصهيونية، فإنه لا يجب أن يبحث عن أوروبا أو الغرب لجلب نماذج تحل محل الدولة المنهارة. ثمة نماذج أفضل بكثير؛ وهي نماذج محلية وموروثة من الماضي القريب والبعيد للمشرق (شرق البحر الأبيض المتوسط) والعالم العربي ككل. وهناك في الفترة العثمانية الطويلة مثل هذه النماذج والموروثات التي يمكن أن تساعدنا، مع أخذ أفكار من الماضي للنظر إلى المستقبل.‏


ويمكن لهذه النماذج أن تساعدنا في بناء نوع مختلف جداً من المجتمع؛ واحد يحترم الهويات الجماعية مثلما يحترم الحقوق الفردية، ويتم بناؤه من الصفر كنوع جديد نموذج يستفيد من التعلم من أخطاء إنهاء الاستعمارات في أجزاء كثيرة من العالم، بما في ذلك في العالم العربي وأفريقيا. والأمل أن يخلق هذا نوعًا مختلفًا من الكيان السياسي الذي يمكن أن يكون له تأثير كبير وإيجابي على العالم العربي ككل.‏

‏*إيلان بابيه Ilan Pappé: (من مواليد العام 1954): مؤرخ إسرائيلي بارز وناشط اشتراكي. أستاذ بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكسيتر بالمملكة المتحدة، ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بالجامعة، والمدير المشارك لمركز إكسيتر للدراسات العرقية والسياسية.


كان محاضرًا بارزًا في العلوم السياسية بجامعة حيفا (1984-2007) ورئيسًا لمعهد إميل توما للدراسات الفلسطينية والإسرائيلية في حيفا (2000-2008). مؤلف كتب: "التطهير العرقي لفلسطين" (2006)، و"الشرق الأوسط الحديث" (2005)، و"تاريخ لفلسطين الحديثة: أرض واحدة وشعبان" (2003)، و"عشر خرافات عن إسرائيل" (2017).

وكان أيضًا عضوًا بارزًا في "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة".

 

يلقي اللوم على إنشاء إسرائيل كسبب لغياب السلام في الشرق الأوسط، ويرى أن الصهيونية أكثر خطورة من التطرف الإسلامي. يدعم حل الدولة الواحدة وقيام دولة ثنائية القومية للفلسطينيين والإسرائيليين. ومؤيد لـ"حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" على إسرائيل (BDS).

*نشر هذا المقال تحت عنوان: It Is Dark Before the Dawn, But Israeli Settler

Colonialism Is At an End

 

اقرأ المزيد في ترجمات:

لم أعد أؤيد الحرب في غزة‏