المقاومة الرقمية في السودان

أمنية سعيد* – (نيو لاينز) 4/5/2023 ‏‏ترجمة: علاء الدين أبو زينة ‏‏كيف تقوم مجتمعات الشتات بسد الثغرات التي خلفتها منظمات الإغاثة الدولية من خلال ترتيب إيصال المساعدات الإنسانية لأولئك العالقين في الحرب‏.

* * حملة رقمية لإنقاذ شعب السودان‏ ‏

في 15 نيسان (أبريل) 2023، اندلع إطلاق النار في الخرطوم، عاصمة السودان. وكان ما بدأ بالتكشُّف في الأيام القليلة الأخيرة من شهر رمضان في بلد يعاني فيه أكثر من 15 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، هو أزمة إنسانية هائلة، مع دعم مؤسسي ضئيل أو معدوم. وكردة فعل على ذلك، وفي انسجام مع التقاليد الراسخة في البلد، ظهرت شبكة لتنسيق المساعدة المتبادلة بقيادة ناشطين مدنيين وأفراد من الشتات السوداني يناضلون جميعًا لإبقاء بعضهم بعضا على قيد الحياة بأي وسيلة ضرورية.‏ في مقابلة مع مجلة “نيو لاينز” أجريت عبر “واتس آب”، يقول أحمد عصمت، طالب الصيدلة من جامعة الخرطوم والمتحدث الرسمي باسم لجان المقاومة في المدينة: ‏”الوضع في السودان رهيب”. ووفقًا لأحدث إحصاء حتى كتابة هذه السطور، قتل ما لا يقل عن 500 شخص في الاشتباكات المستمرة بين الفصائل العسكرية التي تتنافس على السيطرة على الدولة. كما أصيب آلاف آخرون بجروح خطيرة، وهو أمر يدعو إلى القلق بالنظر إلى أن النظام الطبي في البلاد الذي أصبح الآن على حافة الانهيار.‏ ‏يقول ياسر يوسف، رئيس جمعية الأطباء السودانيين الأميركيين خلال مقابلة عبر الهاتف: “ثلثا مستشفيات البلاد خارج الخدمة”. والجثث تغرق المشارح وتتحلل في الحرارة. ولا يستطيع المحتاجون إلى المساعدة الحيوية الوصول إلى الصيدليات التي تعاني من نقص في الإمدادات. مرضى السكر يفتقرون إلى الأنسولين. ومرضى السرطان تقطعت بهم السبل وأصبحوا بلا رعاية.‏ المياه شحيحة، ونقص الغذاء متفشٍ، وأسعار الغاز ترتفع بمعدلات لا يمكن استيعابها أو تفسيرها. وفي غضون الأسبوعين الماضيين فقط، فر أكثر من 50.000 شخص من السودان إلى تشاد ومصر وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى. ولا يشمل هذا الرقم الآلاف الذين بقوا أو غادروا الخرطوم إلى أجزاء أخرى من البلاد، مثل عصمت، على أمل ألا يتبعهم العنف على الأعقاب.‏ ‏في بداية القتال، وخوفًا على سلامة موظفيها، أوقفت جماعات الإغاثة مثل “برنامج الأغذية العالمي” عملياتها في البلاد على عجل. وغادرت المنظمات غير الحكومية مواقعها وقامت السفارات الدولية بإجلاء موظفيها -في بعض الحالات، من دون إعادة جوازات السفر التي تم تسليمها أثناء تقديم طلبات الحصول على التأشيرات، مما ترك بعض المواطنين السودانيين عالقين بلا وثائق.‏ واليأس متفشٍ أيضًا. تقول الصحفية يسرى الباقر في مقابلة مع شبكة سكاي نيوز: “يشعر الناس بأنهم مهجورون ومهمَلون”. وتتساءل الباقر في تقريرها من بورتسودان، حيث يطلب آلاف اللاجئين اللجوء: “متى سيستجيب المجتمع الدولي بأي شكل من الأشكال؟ أنا لا أقول بشكل كاف، وأنا لا أقول على نطاق واسع. أنا أقول: استجيبوا فحسب”.‏ ‏للتخفيف من حدة الأزمة، وبالقليل من الدعم، كان على المنظمات المحلية التحرك بسرعة. وبدأت “لجان المقاومة”، وهي شبكات غير رسمية على مستوى الأحياء كانت قد نظمت الاحتجاجات على مستوى البلاد خلال الثورة في العام 2019، في إدارة المساعدات من خلال دعم المنصات الرقمية. ويشرح عصمت كيف قام المتطوعون بإجراء مسح للأطباء وتجنيدهم لفتح عيادات مؤقتة. وبدأوا في تنظيم عمليات إجلاء للمرضى وكبار السن والنساء والأطفال الذين وقعوا في تقاطع النيران. واستخدموا “تويتر” كوسيلة لتحذير السكان من أماكن وجود القوات المسلحة وبدأوا في تحديد المناطق والطرق الآمنة لأولئك الذين يتطلعون إلى الفرار، وإنما لا يمكن الوصول إليهم.‏
شباب السودان ما يزالون يناضلون من أجل الديمقراطية
في مقابلة هاتفية مع ‏‏”نيولا ينز”، ‏تقول سارة الحسن: “نحن نرى ثمار الثورة السودانية. ما نقوم به الآن لم يكن ليحدث أبدًا لو لم تكن لدينا خلفية، ليس فقط من انتخابات 2020، وإنما من الانتفاضات التي سبقتها أيضًا”. وتوفر صفحات الحسن على “تويتر” و”إنستغرام” تحديثات يومية مهمة. وما تزال منصتها، التي كانت صوتًا حاسمًا خلال ثورة العام 2019، تتمتع بتأثير لا ينضب في العام 2023. وتتابع الحسن: “ما نراه في جميع أنحاء العالم ليس شعور الناس بالحاجة إلى تقديم المساعدة فحسب، وإنما أنهم أصبحوا متمرسين في تقديمها أيضًا”. على الأرض، جاءت البنية التحتية للتحرك السريع كنتاج ثانوي للثورة، عندما كان المتطوعون ينظمون أنفسهم سرًا. وبقدر ما كان لأعضاء لجان المقاومة ومعظم الأصوات المدنية دور فعال في الإطاحة بحاكم البلاد منذ فترة طويلة، عمر البشير، في العام 2019، تعرَّض أعضاء لجان المقاومة ومعظم الأصوات المدنية للتهميش على يد الجهات الفاعلة الدولية التي شجعت النظام العسكري من خلال انتهاج سياسة تهدئة وإرضاء.‏ ‏يقول عصمت: “لم ينتبه أحد في الواقع إلى ما كنا نقوله عن النخبة السياسية، ولكن، هذا هو بالضبط ما كنا نقوله عن النواة الفاسدة لهذا البلد، وهي هي التناقضات تنفجر أخيرًا”.‏ ‏في الكتابات على الجدران في الخرطوم اليوم، يحرص الناس على تأكيد حضورهم ويعلنون بجرأة وتحد: “لا”.‏ في الإشارة إلى المفاوضات بين الجماعات المؤيدة للديمقراطية والمسؤولين الأميركيين المكلفين بالإشراف على التحول الديمقراطي في السودان بعد الثورة، تتحدث الحسن عن الإحباط المتصاعد لدى الناشطين الذين يدافعون عن الحكم المدني. وتوضح الحسن: “أخبرتنا وزارة الخارجية الأميركية بأنه من غير المعقول بالنسبة لنا أن نتخيل حكومة من دون مشاركة الجيش. قالوا إن هذا غير واقعي. وهكذا، إذا اعتقد شخص ما أن حريتي هي مسألة غير واقعية، فهل أنتظر حقًا أن يأتي لنجدتي؟‏”. ‏على الإنترنت، يستخدم الآلاف من المدنيين السودانيين، الموجودين على الأرض وفي جميع أنحاء الشتات، منصات على “تويتر” للتواصل مع بعضهم بعضا وجمع التبرعات وتبادل المعلومات المهمة حول الطرق والممرات الآمنة للخروج من البلاد.‏ ‏تقول نسرين الأمين، الأستاذة المساعدة في جامعة تورنتو، التي وجدت نفسها عالقة في خضم اشتباكات عنيفة خلال زيارة إلى السودان مع ابنتها البالغة من العمر 3 سنوات: “كانت معلومات أشخاص آخرين على ’تويتر‘، في المقام الأول، هي التي أتاحت لي معرفة أين وما الذي ينبغي أن أحاول فعله”. وبعد بعض التردد، شرعت في توثيق رحلتها الخاصة، كما قالت لمجلة “نيو لاينز”‏‏. لم يعد مطار الخرطوم، الذي غزته ميليشيا (ما تسمى بقوات الدعم السريع)، خيارًا، وهكذا، شقت طريقها مع ابنتها ووالديها المسنين، وكلاهما يزيد عمره على 70 عامًا، إلى بورتسودان، في رحلة استغرقت 12 ساعة باستخدام وسائل النقل العام من الخرطوم.‏ تقول الأمين: “يمكن أن تساعد هذه المعلومات شخصًا واحدًا -أو ربما اثنين أو ربما أكثر- على اتخاذ قرار مستنير ومعرفة أفضل طريق يمكن أن يسلكوه، خاصة الأشخاص الذين لديهم أطفال صغار أو والد مسن أو أموال محدودة”.‏ ‏كما هو واقع الحال، ينطوي الخروج من البلاد على رحلة شاقة جسديًا وغادرة. ويُطلَب من المدنيين شق طريقهم عبر الطرق العنيفة ونقاط التفتيش إلى أماكن مثل بورتسودان أو أرجين على الحدود المصرية، حيث يواجَهون بسياسات تمييزية متفشية. وتصف التقارير على الأرض مشاهد الاختلال الوظيفي الجماعي والفوضى. وحتى مع ذلك، فإن الخروج ليس خيارًا متاحاً أو مفضلاً للجميع. وأحد الأسباب هو أن تكلفة تذاكر الحافلات ترتفع إلى عنان السماء وبسرعة صاروخية.‏ يقوم أدهيو ماجوك بتنسيق الجهود نيابة عن “لجنة دعوة المواطنين إلى الإجلاء في حالات الطوارئ”، وهي مجموعة غير رسمية نُظمت في بداية الصراع لدعم اللاجئين من جنوب السودان. وساعدت المنظمة على إجلاء أكثر من 800 شخص، بعضهم لاجئون مرتين، من سورية وجنوب السودان. ويستضيف السودان واحدة من أكبر مجموعات اللاجئين في القارة، بما في ذلك أولئك الذين فروا من العنف في سورية، وجنوب السودان، وإثيوبيا وإريتريا.‏ ‏يقول ماجوك، الذي وصلت حملته الجماعية لتوفير التمويل لتأمين كلف النقل والإمدادات الطبية مخاطبًا جمهورًا دوليًا: “لقد أظهر هذا الوضع حقا أهمية ’تويتر‘. أنا على ثقة من أن هناك أرواحًا تم إنقاذها”. في الآونة الأخيرة، حدث ارتفاع كبير في حملات التمويل الجماعي، التي يتم استخدامها لإشراك الشتات في جهود الإغاثة. وجمعت “جمعية الأطباء السودانيين الأميركيين” أكثر من 400.000 دولار في أسبوعين، وهي أموال يتم توزيعها على الطاقم الطبي المتواجد على الأرض وتوفر البنية التحتية الحيوية لنظام متصدع مسبقًا.‏ و‏يقود مازن بشار حملة لجمع التبرعات من أستراليا. ويقول: “لقد جمعنا حوالي 26.000 دولار، قمنا بتوزيعها ربما على 600 عائلة في الأيام الـ9 أو 10 السابقة”. وعلى “تويتر”، يشرح بشار بالتفصيل كيف يتم استخدام الأموال.‏ وتقول دِنان الأسعد لمجلة “نيو لاينز” عبر تطبيق “زووم”: ‏”ما نقوم به الآن هو مجرد امتداد لثقافة موجودة مسبقًا. لقد أتمتنا أو رقمنا بطريقة ما شيئًا موجودًا بالفعل في ثقافة تحترم المساعدة المتبادلة”. وتستخدم الأسعد منصتها على “تويتر” لنشر طلبات المساعدة المتبادلة. وللمقاومة من خلال هذه المساعدة، عن طريق النقابات غير الرسمية ولجان المقاومة، تاريخ طويل في السودان. وفي إشارة إلى محادثة كانت قد أجرتها مع عضوة كبيرة في الاتحاد النسائي السوداني، إحدى أقدم وأكبر منظمات حقوق المرأة في القارة، أضافت الأسعد: “تحدثت إلى سيدة في الاتحاد النسائي (كانت تمارس العمل التنظيمي طوال 40 عاما). وقالت لي: ’عندما تحدث هذه الأشياء، لا نحاول أن نكون متفائلين. ولا نحاول أن نكون متشائمين، ولا نحاول وضع أي نوع من الافتراضات أو التخمينات؛ نحن نعثر فقط على العمل الذي يجب القيام به ونقوم به‘”.‏ ‏ما يحدث في السودان، وسط ما وصفته الباحثة روث ويلسون غيلمور بأنه “أهمال منظم” -في بلد من دون هيئة حكومية عاملة وبدعم دولي ضئيل- هو رد فعل مضاد؛ تمرين في التنظيم يتم تنفيذه رقميًا وعلى أرض الواقع.‏ ‏تقول الأمين: “القصة لا تتعلق بالإجلاء البطولي للمواطنين. ثمة أشخاص… يُبقون الناس على قيد الحياة، مجرد مدنيين عاديين يعتنون بجيرانهم”.‏ ‏ويتم توثيق هذه القصص باستمرار عبر الإنترنت حيث ثمة الآن مستودع رقمي. من خلال عيون المواطنين الصحفيين والشباب والناشطين والعائلات داخل وخارج الشتات، يرى المرء الناس وهم يعرضون جهدًا هائلاً لرعاية بعضهم بعضا إلى جانب نداءات يائسة لطلب المساعدة. هناك أطفال يبحثون عن أجدادهم، وأطباء يدافعون عن الموظفين، ومكالمات هاتفية يتم إجراؤها على بعد آلاف الأميال لأحبائهم الذين ينتظرون مكالمة، ولاجئون يصفون أوقات انتظارهم على الحدود بينما يتم حرمانهم من اللجوء.‏ ‏تذكرنا أهمية الفضاء الرقمي في الوقت الفعلي -“تويتر” في عالم ما بعد إيلون ماسك- بقدرة المنصات الرقمية على استيعاب الحركة وتحفيز الأصوات من جميع أنحاء العالم وربطها معًا. وباستثناء المليارديرات المصابين بجنون العظمة، فإن الفضاء الرقمي هو شريان حياة لأولئك الذين يتم التخلي عنهم، وهو يساعد وينقذ الأرواح في السودان الآن بطرق حقيقية ومادية. وبينما تستمر النداءات في طلب المساعدة، يَظهر الآن بديل عن الدعاية التي تمولها الدولة.‏ تقول الحسن: “أعتقد أن ما نقوم به من خلال إيصال ما يحدث على الأرض هو إجبار الناس على رؤيتنا”.‏ ‏ويختتم عصمت حديثه من السودان؛ حيث يتخذ لنفسه ملجأ في وطنه، بالقول: “الطريقة القديمة المتمثلة في قيام قلة من الناس باتخاذ القرار نيابة عن الأغلبية تموت من خلال المقاومة”.‏ *أمنية سعيد Omnia Saed: كاتبة من واشنطن العاصمة، تخرجت من كلية كولومبيا للصحافة. من خلال تقاريرها، تستكشف العلاقة بين العرق والأرض والثقافة. ظهرت أعمالها في عدد من المنشورات، بما فيها “آتموس”؛ و”ذا فيلادلفيا إنكويرر”؛ و”بالتيمور ماغازين”.‏ *نشر هذا المقال تحت عنوان: Sudan’s Digital Resistance اقرأ المزيد من ترجمات:
اضافة اعلان