حب غير مشروط

د. رشا سلامة
د. رشا سلامة
ذاتَ مساءٍ، استأذنني الرجلُ المهذبُ وزوجتُه في الجلوس معي حول الطاولة نفسِها، التي أستأثرُ بها، في المقهى العربي المزدحم في إشبيلية؛ ليتمكّنا من مشاهدة مباراة المغرب مع فرنسا. استبشرت بهما وبلطفهما المتناهي، لا سيما حين عرفتُ أنهما من الباكستان.اضافة اعلان
تميل عليّ الزوجة، خلال المباراة، لتسألني بخجل عن معنى كلمة «زيّاش» التي لا ينفكّ المعلق الرياضي يرددُها، أجيبُها ضاحكةً أنها اسم عائلة اللاعب المغربي الواعد حكيم زيّاش.
في الفاصل بين الشوطين، تحدث كل منا عن بلاده، وكم كان احتفاء الزوجين بي كبيراً حين عرفا أنّي من فلسطين.
لم يكن هذا الاحتفاءُ جديداً عليّ؛ إذ اقترابي من الجالية الباكستانية في برشلونة، على مدار ثلاثة أعوام، كان من أجمل مخرجات الرحلة وأثراها ثقافياً. لم أكنْ قبل ذلك قد تعاملتُ مع أصدقائنا الباكستانيين عن قرب، إلا في فترة كنتُ أذهب فيها لمنطقة الأغوار الأردنية؛ لإعداد تحقيقات صحفية عن الجالية الباكستانية التي تعمل هناك في الزراعة والتي تسكن الخيام ولا تحمل أوراقاً ثبوتية في معظم المرات.
في كتالونيا عموماً، وبرشلونة على وجه خاص، اقتربت من الرفاق الباكستانيين ووجدتهم من أكثر المتحمّسين والداعمين للقضية الفلسطينية. يتصرف كثر منهم كما لو كانوا سفراء لفلسطين والعالم الإسلامي، بل العربي تحديداً، في الغرب. ولشدة ما يتفانون في خلق صورة إيجابية، فإنهم يحظون بثقة الأهالي هناك، ويشكّلون جالية كبيرة يتركّز معظمها في المنطقة الموازية لشارع الرامبلا.
عند زيارتك تلك الأزقة تشعر كما لو كنت تمشي في حي شعبي في أحد بلدان العالم الثالث: اللافتات المكتوب جزء كبير منها باللغة العربية، وكلمة «حلال» التي تتصدر تلك اللافتات للإشارة إلى اللحوم المقدمة على الطريقة الإسلامية، وصالونات الحلاقة بصورتها الشعبية القديمة، واستديوهات التصوير ذات الطابع القديم جداً، ومحال الخضار والبقالة الزاهدة في معروضاتها. يتجوّل الباكستانيون في تلك الطرقات بملابسهم التقليدية غالباً، ويبشّون في وجه الضيف العربي على نحو خاص ويعرفونه وإن لم ينطق بكلمة. «الدم يحنّ» تماماً حين يراك الباكستاني في برشلونة وينظر في وجهك، وحين يعرف أنك فلسطيني فقد نلت الحسنيين من وجهة نظره: عربي وفلسطيني معاً!
حين تقترب من الجالية الباكستانية في برشلونة، يبثونك شجونهم حول عدم مبادلة العرب لهم هذه المشاعر الإيجابية والاحتفاء. منهم من يتحدث عن نزعة استعلاء لدى بعض الشعوب العربية في التعامل معهم. وفي الحالة الفلسطينية تحديداً، كم كنت أتأسف أن لا احتواء فلسطينيا لهم، رغم كونهم سفراء للقضية الفلسطينية ويعرفون تفاصيلها وأسماء شخصيات بارزة فيها، كما يحيطون جيداً بتفاصيل تاريخية للقضية الفلسطينية والانتفاضتين والوضع الذي يعانيه الحرم القدسي على وجه التحديد، وبشكل لا أتردد في قول إنه يفوق كثيرا مما وجدته من ثقافة سياسية لدى جنسيات عربية.
لا أنسى ما قاله لي إسبانيون بصيغ مختلفة، حول القضية الفلسطينية، حين كنت أتحدث عنها. فحوى القول إنهم لا يملكون معلومات كافية عن القضية ليختاروا مع من عليهم الاصطفاف. كنت أشعر بالحرج من ذلك؛ إذ أقر بيني وبين نفسي بضعف الحضور الدبلوماسي لفلسطين في أوروبا، وضعف خطابنا الإعلامي، وهيمنة رواية كيان الاحتلال وتصدّرها الواجهة هناك. الجانب المشرق للرواية الفلسطينية، الذي كنت أراه في إسبانيا، هو استماتة الجاليتين الباكستانية والمغربية، على وجه التحديد، في الحديث بلسان القضية الفلسطينية والمشاركة في الوقفات الاحتجاجية حين تحتقن الأوضاع في الأرض المحتلة.
وحين كنت في الفترة الأولى من وجودي هناك، كنت أستخدم اسم فلسطين بالإنجليزية عندما أتحدث عنها أو أجيب عن البلاد التي تعود أصولي لها، فكان يختلط الأمر في مرات على بعض الإسبان الذين يقولون «أووه باكستان»، حتى امتثلت لنصيحة أحد الرفاق الباكستانيين بضرورة قول «بالستينا» بالإسبانية؛ حتى يدركوا أني أتحدث عن فلسطين وليس الباكستان؛ لتشابه الكلمتين بالإنجليزية.
لسفرائنا الباكستانيين المنسيّين في إسبانيا: شكراً من القلب.