انحياز

من أصدق ما قرأت عن لوازم إصدار صحيفة، هو ما نص على توفر رأس المال والصحفيين والعمال والمكاتب والمطابع والورق.. والموقف المنحاز. ومن أصدق ما قرأت عن الموضوعية، هو ما عبر عنه توماس فريدمان باعترافه: أنا أتقاضى راتبي ومكافآتي لأكون منحازا.اضافة اعلان
لا توجد صحافة محايدة، ومن يعتقد بغير ذلك ويصدق ما يروجه الغرب عن حياد إعلامه يكفيه أن يرى وأن يقرأ الصحف البريطانية أو الأميركية أو الفرنسية ليكتشف كم نحن موهومون بموضوعية الإعلام الغربي وحياده. وليعرف كم هو مستحيل أن يتجرد المرء من مواقفه ومن رؤاه ومن انحيازاته، سواء حين ينطق بصوته أو بصوت مؤسسته.
وإذا كانت جودة الخبر تقاس بشموليته وموضوعيته وحياده، فإن جودة المقال تقاس بموقف كاتبه وانحياز استخلاصاته.
لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن يكون الكاتب عقائديا، وأن ينهل من الفكر لينتج الفكرة، وأن يقيد نفسه وموضوعه بمحددات ملزمة تدفعه في أحيان كثيرة نحو الصدام مع المنطق ومجافاة الواقع والاستسلام لما يشبه الهذيان في الدفاع عن الغلط.
يصلح العقائديون لأن يكونوا محاضرين ومنظرين وليس كتّابا يخاطبون جمهورا عريضا يبحث عن حلول واقعية لمشاكله اليومية، وعن نوافذ مفتوحة على الأمل لتحقيق أحلامه الوطنية والقومية. لكن هؤلاء موجودون بكثرة غير مبررة في كل صحافة العرب، ويشكلون كهنوتات سياسية ودينية واقتصادية واجتماعية ينطق بعضها بألسنة الحكومات والسلطات، وينطق بعضها بأسماء المعارضات، وتشترك كلها في تعطيل الفعل الحقيقي وإعاقة حركة الشارع نحو الإصلاح وتغيير الواقع الرديء.
من هؤلاء من يظل أسيرا للفكرة الواحدة، فيكتب كل يوم في تعريف الهوية، ومنهم من يدفعه عداؤه للغرب إلى تأييد أنظمة قمعية تدعي العداء للغرب وتبطش بشعوبها من أجل تحرير فلسطين! ومنهم من يرى أن كل من يتحرك خارج الملعب الحزبي لحركة أو جماعة ينبغي أن يعامل كخارج عن الملة. ولكل منهم جمهوره، لكن هذا الجمهور ينقص ولا يزيد نتيجة الإشباع الذي يصل حد التخمة بفكرة واحدة.
هذا نموذج منفر من الانحياز في الكتابة، لكن هناك انحيازا من نوع آخر هو الانحياز للفكرة بدلا من الانحياز للفكر، وهو انحياز واقعي يساهم في تشكيل الرأي العام بطريقة أكثر موضوعية، ويحمي الكاتب والقارئ من التعميم المضلل.
على امتداد عقود الصراع واللامواجهة في المنطقة، انقسم النظام العربي إلى معسكرين؛ غربي وشرقي. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، اختارت الدول ذات الهوى الشرقي أن تسمي نفسها "دول المقاومة والممانعة"، وخاضت حروبا إعلامية متواصلة ضد المعسكر الآخر الذي حمل اسم "دول الاعتدال". وكانت هذه الحروب والحملات الإعلامية مجرد مناورات للاستهلاك الداخلي، لأن دول المعسكرين تقف على مسافة واحدة من اسرائيل.. ولم يعد ذلك سرا.
بعد الربيع العربي لم يعد هناك مبرر للانحياز الإعلامي لليمين أو لليسار، فقد كشفت هبّات الشباب في العواصم العربية سقوط الجدران العقائدية، وقدمت نموذجا راقيا للموقف الجماهيري، وأنجزت أهدافها لأنها ظلت بعيدة عن هيمنة القوى التقليدية.
وبعد كل ما حدث لم يعد مقبولا استمرار الإعلام في دوره التقليدي البائس وانحيازاته المؤطرة، فهناك حاجة حقيقية إلى إعلام موضوعي ومنحاز إلى قضايا الناس.