تكميم الهواء

تكميم الهواء! هذه العبارة ليست صورة شعريّة كما يبدو لك عزيزي القارئ. إنّها حقيقة، ولكن هل جرّبت يوماً أن ترى هواءً مكمَّماً! إذا صعب عليك الأمر، فما عليك غير أن تعود إلى الأسطوانة المشروخة إيّاها (رقابة المطبوعات والنّشر) التي يتردّد صداها بين فترة وأخرى، والتي من المُقرّر أن يُضمّ إليها (المواقع الإلكترونيّة، وكلّ ما يمتّ إلى الإنترنت بصلة)، بعبارة أخرى مراقبة الهواء والأمواج اللاسلكية التي تتحرّك فيه! وإذا اقتضت الضّرورة فتكميمه (أي الهواء) وربط (براطيمه) بالخيش مثله مثل البغال وسائر الحيوانات!

اضافة اعلان

ليست هذه هي المرّة الأولى التي يجري فيها التّلويح بمراقبة الشّبكة العنكبوتية في الأردن، ولكنّها المرّة الأولى التي تبدو فيها الحكومة جادّة على طريق كبح جماح الهواء الأرعن، أو ما صار يطلق عليه اسم الصّحافة الإلكترونيّة، فقد أصدرت محكمة التّمييز مؤخّراً قراراً اعتَبرت فيه أنّ المواقع الإلكترونية هي وسيلة من وسائل الإعلام، وهي بالتالي لا بدّ أن تخضع لقانون المطبوعات والنّشر. أطراف في الحكومة تلقّفت هذا القرار، واعتبرته بمثابة قانون مُلزِم.

نعود إلى موضوع الرّقابة لنرجّه من جذوره، وهو الموضوع الذي أورثَنا وجع الرّأس، وشوّه سمعة البلد، وما يزال الصّوت الأكثر نشازاً في ظلّ رياح الحداثة التي تهبّ علينا من جميع الجهات. نعود إلى هذا الموضوع لنسأل: لماذا الرّقابة في الأصل؟ وهل بقي هناك ما يبرّر وجودها؟ ثمّ ما هو البديل الموضوعي عن الرّقابة والذي بواسطته ينتقل المجتمع من أجواء الخوف والإحباط إلى أجواء الحرّية والتّقدّم؟

لم تكن الرّقابة مجدية في يوم من الأيّام، لا على مستوى الفرد ولا على مستوى الوطن على حدٍّ سواء. على العكس من ذلك، فقد كان لها منذ البداية دور تخريبي. إنّها، أي الرقابة، تُعيق انتقال المعلومة، أو لنقل تحجبها، وهذا بحد ذاته يلغي فكرة المجتمع الحرّ القائم على تداول المعرفة في الأصل. الرقابة بذلك تكرّس مجتمع القطيع، وهو المجتمع الذي لا يرى ولا يسمع، ولا يتكلّم. إذا ما انتقلنا إلى الرقابة المفروضة على الإبداع، فستكون هناك الطامة الكبرى! هناك نتيجة وحيدة تؤدّي إليها هذه الرقابة تتمثّل في تشويه وجدان الجماهير!

لا بدّ من قبر الرّقابة إلى الأبد. لا بدّ من الإطاحة بأهمّ معيق في طريق التحديث والتّطوّر. لا بدّ من الحرّيّة والحريّة المطلقة في الكلمة المكتوبة والمسموعة، ولا بدّ من قول كلّ شيء.

في هذه الحالة قد يسأل أحدهم ولكن ألا يمكن أن تتسبّب الحريّة المطلقة في مجال القول بمجموعة كبيرة من المشاكل؟ فأجيب ذلك صحيح، ولكن لا بديل عن حرّية الكلمة غير حريّة أعظم تطال الثّوابت والمسلّمات في بركة مياهنا الآسنة، وعلينا في مثل هذه الحالة ألا نلجأ إلى الرّقابة في أي حال من الأحوال. بدلاً من الرّقابة لدينا ما هو أهمّ وأجدى.

صناعة الوعي وتطويره، ربما تكون من الوسائل النّاجعة في حماية المجتمعات الحرّة، من الانزلاق باتّجاه الفوضى والتّشرذم. إنّ أوّل خطوة على طريق صناعة الوعي ينبغي أن تتضمّن الاعتراف الصّريح بالرّأي والرّأي الآخر، إذ لم تعد هناك جهة ما في العالم قيّمة على الحقيقة. إنّ احتكار الحقيقة هو أثر من آثار الماضي البائد، الماضي الذي يُفتَرَض أنّه ذهب بلا رجعة.

رقابة المطبوعة بشقّيها الورقي والإلكتروني هي عودة إلى الوراء، وهي خطوة في الاتّجاه الخاطئ، وإذا كان لا بدّ من الرقابة، فلمَ كلّ هذه الكمبيوترات والهواتف النقالة؟ ولماذا يدخل شارع جامعة اليرموك كتاب غينيس للأرقام القياسية؟؟


[email protected]