أين الدولة المدنية؟

سفر قصير النفس، احتمل الحديث عن الدولة المدنية، يشبه الموضة، يشبه الحاجة إلى التنفيس في لحظة دائخة بين أزمات المنطقة، وأزمات البلاد.
هل ذهبت الدولة المدنية بلا رجعة؟ هل كان الخوض في فكرتها، مجرد تهويمات لفرسان المناسبات، أم أنه مجرد نزوة وطنية، اجتاحت الجميع، ليخوضوا نقاشا يختبر فيه الوعي العام، ومن ثم الانتقال إلى رفع موجة الهياج الحكومي في تدبير شؤون رفع الأسعار، والتعمية على أكوام الفساد في البلد؟اضافة اعلان
المدنية تتمثل في خلق مناخ من العدالة الاجتماعية، تمنحنا فرصة للنأي بأنفسنا عن نزق الانزلاق إلى متحف التاريخ، لنبدو ككائنات منقرضة، يتفرج عليها السياح.
لنعد إلى أرقنا الهزيل بالدولة المدنية التي كفرها بعضهم على المنابر، ورأينا من يتجرد من موبايله وسيارته والحداثة التي يتنعم بها، لكنه يبقى متمسكا بالدشداش المصنوع في الصين، ليثبت أصالته معتقدا ومحتدا.
الدولة المدنية إذن، هي تلك الفرصة التي تأتي بعد عقود من استخدامها في بلدان تمكنت من أن تواري عوراتها، وتنهض من كبوات كثيرة، كانت تؤخرها عن المضي قدما في صياغة وجودها.
لم نتمكن منذ الاستقلال وإلى اليوم من خلع رداء الماضي. حفظنا فكرتنا عن الدولة من الصور المتناثرة في ألبوم دول سبقتنا لإرساء الدولة، وأخذنا الصور وتصورنا بجانبها، لكننا بقينا مندسين في ماضينا، نعتقد بأن الدولة مجرد كيان يلتئم تحت إبطه الجميع، العامل والذي لا يريد أن يعمل.. والحالم والنائم. اعتقدنا بأن الدولة هي مكان خصب للحدود والمؤسسات المعطلة عن العمل، ذات الطابع الشكلي، وزورنا فكرتها ـ أي الدولة، وضحكنا على لحيتها ونحن نقول إننا أبناؤها، مع اننا معطلون عن التقدم قيد أنملة في رواق الحاضر، نجتر الماضي ونفلحه كرعاة لا يبذلون جهدا سوى الهش على قطعان دائخة من يباس المراعي.
عزيزي المواطن، أنت تحرص على أن تكون ابنا للدولة، فترقص على أنغام موسيقاها وكلماتها الملتهبة بالحماسة، وتنسى أن الفكرة لا تكون بهذا التطريب المجوّف الخالي من حقيقة الفكرة ذاتها.. الوطن، أو الدولة.
حسنا؛ أنا اعرف الوطن، مهمة مشدودة إلى فكرة المواطنة، تلك المهيأة للاعتراف بك ككيان متكامل له حاجاته ومكانته وآماله ووجدانه، وأعرف ان الدولة، مهمة تفرض وجودها المادي بالمؤسسسة، لتغطي مهمتك ككيونة .. كمواطن، وتمكنك من عيش حياة سوية، تحكمها القوانين والتشريعات.
أكثر من مائة سنة على تأسيس الدولة، دائما ننتظر، دائما نتعلق بما قد يأتي، ولكنه لا يأتي. ودائما تخضع مفاضلتنا لما نحن فيه ولما نريده فعلا، إلى الظرف التاريخي.. المادي.. الاجتماعي.. السياسي.. إلخ من ظروف، تستتر بالخوف مما قد يأتي، مع أننا نفرح كثيرا بانتظار هذا الذي لا يأتي.
نحن نريد فعلا دولة مدنية، وأن ننهض بها وتنهض بنا.