بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية

طوال الوقت، كنّا نتطلع نحن العرب إلى نموذج الديمقراطية الغربية كمصدر للإلهام. وقد تصوّرنا أنّ تطبيق هذا النّموذج في بلداننا كفيلٌ بحلّ أزماتنا الفردية والجمعية، ووضعنا على قدم المساواة مع العالَم المتقدم. والآن، بدأنا نشاهد المشكلات الاجتماعية الكبيرة وهي تطفو على السّطح في نفس البُلدان التي تعتبر نفسَها "ديمقراطيات" راسخة في الغرب المتقدّم. بل ويقولون أحياناً إن الجمهور الغربي هو الذي بات يستلهم ثورات الرّبيع العربي لمحاولة تصحيح الأوضاع غير السويّة في ديمقراطياته نفسها.اضافة اعلان
هذه الصورة الكليّة تبدو مُحبطة بطريقة ما. إننّا نجدُ أنفسنا في المنطقة العربية متخلفين عن الغرب خطوتين في الطريق نحو العدالة الاجتماعية. ولذلك، وبسبب طول فترة الظروف الضاغطة ونفاد صبر مواطنينا بعد عقود من الاستبداد المصحوب بالتمايز الاجتماعي، يطالبُ الناسُ هنا بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية معاً، ويعانون بعض الارتباك في ترتيب الأولويات: التعدّدية السياسية أم الإصلاح الاقتصادي؟
في التصور المثالي النظري لمفهوم الديمقراطية، يفترض أن تنتج أنظمة الحكم المنتخبة القادمة من الممارسة الديمقراطية شكلاً معقولاً من العدالة الاجتماعية، بالتعريف. وفي المقام الأول، ينبغي أن يصل الحاكِمون إلى السُّلطة نتيجة اختيارات الجماهير الواعية لمصالحها والمتطلعة إلى تحسين أحوالها. لكنّ الذي يحدُث في الواقع، كما تبيّن التجربة الماثلة في الغرب "الديمقراطي"، هو أنّ الوصول إلى الحكم يكون محكوماً سلَفاً بمجموعة من الشروط العُرفية التي تحدّد هوية الصاعدين المُحتملين إلى السلطة: ينبغي أولاً أن يكون الطامح إلى عضوية الهيئات التنفيذية والتشريعية ذا مكانة اعتبارية مخصوصة؛ ويجب ثانياً أن يحظى بدعم ومباركة الجهات المتنفذة وصاحبة الأدوات التأثيرية من قطاع الأعمال والصنّاعة والإعلام المتحكمة في القرار. وهذه الجهات جميعاً تنطوي، موضوعياً أيضاً، على سمات تمييزيّة بنيويّة في الأساس، ولا بدّ أن تسعى إلى إدامة امتيازها عن الناس العاديين.
 في موضوع العدالة الاجتماعية الذي يشكل المطلب النهائي للشعوب العربية المُنهكة، ثمّة فرز خاص في نوعية البيئة السياسية والاقتصادية لدول المنطقة. فهناك الدول العربية النفطيّة الغنيّة القائمة على الاقتصاد الريعيّ. وفي هذه الدّول، يُصادر الحُكّام معظم الثروة القادمة من عوائد الثروة الطبيعية، لكنّ وفرة الدخل تتيحُ لهم توزيع جزء من الفائض على المواطنين في شكل هبات ومنح وتوظيف خَدَميّ، فيَشعُر هؤلاء المواطنون بنوع من الارتياح الاقتصادي بسبب توفُّر حاجاتهم الأساسيّة. وهُناك، ينتُج ميلٌ أقلّ إلى الجدّية في محاولة تغيير الأنظمة السياسية باتجاه الديمقراطية، باعتبارها حاجة عُليا وأقلّ ضرورة. لكنّ ذلك لا يلغي في التحصيل الأخير غياب العدالة الاجتماعيّة حيث يحصل النّاس على الفُتات، مهما بدا كثيراً، مع انعدام إمكانيّة التعبير الحرّ، ناهيك عن الطموح إلى المشاركة في الحُكم.
أما النوّع الثاني، الذي يندرج الأردن في فئته، فهو الدول قليلة الموارد من جهة الثروة الطبيعية. وفي هذه الدّول، يتمّ تجميعُ الموازنات بطرق صعبة، من عوائد الإنتاج القليل والقروض والمساعدات الخارجية وما شابه. وبذلك، يصعب إخفاء استيلاء البعض على معظم الثروة عن طريق إسكات الناس بفائض يجعلهم مرتاحين نسبياً. ومن شأن سوء توزيع الثروة الشحيحة في هذه الظروف لتتركّز في أيدي القلّة، أن يعني بالضرورة إفقار الأغلبية الساحقة، مما يوفّر المناخ المثالي لاندلاع الاضطرابات الاجتماعية وتعميق مشاعر الاستياء والإحساس بالظُّلم والتباعُد حدّ التناقض بين الطبقات.
وإذن، ستتحدد جدوى الديمقراطية بالنسبة للمواطن الأردني بقدْر ما يتوقّع أن تعكسَه على نوعيّة معيشته بكل بساطة. وسيعني ذلك تصحيح طرائق إدارة إمكانيات البلد وثروته بحيث تذهب إلى وجهاتها المفترضة: توفير المتطلّبات الأساسية التي هيَ حقّ لا يُناجز لكل مواطن. ولا يحتاج الأمر إلى كثير تفكير لتعريف هذه المتطلبات: العناية الصحية المجانية أو التي يُمكن تحمُّل كلفتها؛ التعليم المجاني أو قليل الكلفة للجميع وإلغاء امتياز الوصول إليه؛ الحصول على عمَل لائق يدرّ دخلاً يكفي صاحبه العوز، وتساوي الفرصة في الوصول إليه أيضاً؛ وإمكانيّة السكن في منزل معقول يمكن تحمل كلفته والاطمئنان إليه.
إجمالاً، إذا كانت المساعي الأردنية الحالية نحو الديمقراطية ستفرز استبداداً أيديولوجياً جديداً منفصلاً عن تحقيق العدل الاجتماعي، فإنّ الدائرة الشرسة ستستمرّ، وسيعيد الفساد إنتاج نفسه.

[email protected]