ألم نجرّب ذلك؟!

أولاً، من الجميل أن يبادر رؤساء الوزراء السابقون، ممن يحملون رؤى سياسية واقتصادية، إلى تقديم وجهات نظرهم وآرائهم بشجاعة إلى الرأي العام والجمهور، وأن يخلقوا حالةً من النقاش العام والحوار المفيد حول هذه التوجهات، بما يحرّك المياه الراكدة، ويدفع إلى فهم أعمق وأدقّ للمشكلات التي تواجه البلاد والعباد.اضافة اعلان
مناسبة هذه المقدّمة هي المحاضرة المهمة والجدليّة التي قدّمها رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي، في الجامعة الألمانية، أول من أمس. وهي محاضرته الثانية، بعد المحاضرة التي كان عقدها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية. لكنّه عبّر، هذه المرّة، بصورة أكثر وضوحاً، عن قناعته العميقة المعروفة بأنّ الإصلاح الاقتصادي مقدّم على الإصلاح السياسي. ومن أجل ذلك بارك تأجيل طرح المشروع المعدّل لقانون الانتخاب على مجلس النواب إلى حين الانتهاء من حزمة المشروعات التنموية والاقتصادية.
وجهة نظر الرفاعي، هذه، معروفة تماماً لدى أغلب النخب السياسية والإعلاميين؛ فهو ابن المدرسة الاقتصادية. ولم يعد سرّاً أنّ سمير الرفاعي وباسم عوض الله، بالرغم مما بينهما من خلافات كبيرة، هما من أبرز الشخصيات التي رسمت معالم برنامج "الإصلاح الاقتصادي" الذي سارت عليه البلاد منذ العام 2000. والرفاعي هو من أنصار نظرية "تكبير كعكة المنافع الاقتصادية لحل المشكلات السياسية"!
على أيّ حال، وجهة النظر هذه لها أسسها ودلائلها. وأهمية مناقشتها لا تنبع من تبنّي الرفاعي لها، فقط، وهو المرشّح للعودة لاحقاً إلى المشهد السياسي، إنّما لأنّها وجهة نظر قطاع عريض من النخبة السياسية المحيطة بمطبخ القرار، والتي تصرّ على أنّ القصة أولاً وأخيراً هي اقتصادية، بينما الشأن السياسي قضية ثانوية، لا تلقى اهتماماً لدى الشارع. وتعزّز هذه النخبة نظرتها باستطلاعات الرأي، وآخرها الذي أعلن أمس، وهو أنّ قضايا الحياة اليومية والأسعار والبطالة والفقر والاقتصاد، تحتل زوايا الرؤية كاملة لدى المواطنين، بينما الشأن السياسي لا يتجاوز الاهتمام به 10 % منهم!
بالرغم من وجاهة هذه الرؤية، إلاّ أنّها تواجه ثلاثة انتقادات بنيوية جوهرية، مع الاعتراف، بدايةً، أنّ الأزمة الاقتصادية، بالضرورة، هي التي تسيطر على الرأي العام والشارع، كما هي حال أغلب المجتمعات. لكنّ السؤال لا يقف عند حدود المشكلة الاقتصادية، بل في كيفية إدارتها، وهنا تأتي أهمية الإصلاح السياسي وأولويته، وضرورة أن يتزامن ويتوازى مع الاقتصادي!
الانتقاد الأول، أنّ وجهة النظر هذه تمّت تجربتها، كما ذكرنا، خلال العقد الماضي، وهي التي حكمت الأردن؛ فكان الشعار "الإصلاح الاقتصادي أولاً". لكن النتيجة انعكست عبر انتشار الانطباع العام بتغول الفساد، وفقدان الثقة بين الدولة والمواطن، وطرح أسئلة هائلة حول مآلات الخصخصة وأموالها، وانعدام الشفافية، ما خلق أزمة سياسية خطرة وحساسة، دفعت ثمنها الدولة من رصيد سمعتها وعلاقتها بالمواطنين، وما نزال نعاني منها إلى اليوم!
الانتقاد الثاني، أنّ نقطة الضعف الحقيقية في هذا البرنامج تتمثّل في إضعاف الطبقة الوسطى، وعدم قدرة الشريحة الواسعة على مواجهة الضغوط الاقتصادية، وذلك على النقيض من حديث الرفاعي الوردي عن توسيع الطبقة الوسطى وحمايتها. فهو كلام لدغدغة العواطف، إذ ما تزال هذه الطبقة في الواقع تتعرّض لضغوط ومحنة شديدة، بينما الشريحة الواسعة من المجتمع عاجزة عن مواكبة التحولات!
الانتقاد الثالث، أنّ الوصفة التي تحدّث عنها الرفاعي لم تحل المشكلة الاقتصادية، بقدر ما أدّت إلى زيادة المديونية والبطالة والفقر والدين العام، وزيادة النفقات الجارية، مع الكارثة الجديدة وهي انتشار الفساد!
بيت القصيد أن ما قدّمه الرئيس جُرّب سابقاً، وما نحتاجه اليوم هو رؤية نقدية عميقة للأخطاء التي وقعنا فيها، وكيف نتجنّبها في المستقبل، بما في ذلك الاستخفاف بأهمية الإصلاح السياسي، الذي لو كان حاضراً جنباً إلى جنب خلال المرحلة الماضية، لكنّا قطعنا مراحل طويلة، وتجاوزنا كثيراً من حقول الألغام التي مررنا بها!