الإنسانية حجر أساس الدولة المتعافية

مالك العثامنة قبل سنوات وفي مهجري البلجيكي، قابلته مصادفة في شوارع المدينة التي تضمنا مهجرا وموطنا جديدا، أدعوه لفنجان قهوة فيكرمني بالتلبية. نجلس في المقهى وعلى طاولة بجانبنا بلجيكي عجوز متقاعد يتصفح الجريدة (تخيلت العجوز محاربا قديما في الحرب العالمية الثانية نجا منها وعاش ليحكيها). أجلس أنا وصاحبي السوري وبعد كلمات المجاملة والترحيب أسأله عن حاله وأحواله، ليبهجني أنه بعد خمس سنوات من العمل والتعلم ودفع الضرائب وأداء الواجبات “استحق” الجنسية، وصار مواطنا كامل الأهلية، مثله مثل العجوز الجالس بجانبنا ويبادلنا ابتسامات الود بدفء إنساني غامر. يأتي النادل– ويبدو أنه من أصول أفريقية- فيتحدث إليه صاحبي السوري بلغة هولندية سليمة (لا أزال أنا شخصيا قاصرا عن إتقانها)، ثم يتوجه إليّ بالحديث عن حاله وأحواله وتتضمن عمله الذي نجح به “شيف مطعم” بكفاءة عالية، وهو الذي درس الحقوق في سورية قبل أن يأتي أوروبا؛ ثم عن نشاطاته كناشط سياسي وحقوقي متخصص بالشأن السوري وله علاقاته الواسعة والعميقة والمبهرة مع نخب الإعلام والصحافة ومراكز الدراسات في بلجيكا وهولندا (وهذا حقيقي فأغلب من أعرفهم من هذا الوسط يعرفونه ويحترمونه)، ولأن لكل حديث شجونا، فقد امتد الشجن بصديقي المعجون بوطنه لا يزال، فتحدث بوجع وشوق وكثير من أمل يحمله. ينتهي الحديث وينتهي فنجان القهوة، يستأذن بالذهاب على وعد مشترك بيننا باللقاء من جديد، يغادر ويتركني مع حزمة أسئلة يلفها الوجع على حالنا وأحوالنا كمشرقيين من بلاد الشام خصوصا وعرب عموما. دوما أتساءل وأنا كل يوم أراقب في مدن أوروبية عديدة حكايات النجاح المذهل لعرب قدموا قبل سنوات قليلة من أوطانهم لاجئين أو مهجرين، فسابقوا الزمن ليكونوا علامات نجاح إنسانية في أوطانهم الجديدة، بدون ضجيج ولا إنشائيات ولا خطب ولا أناشيد وطنية مرفوعة للقيادات الموهومة، بل مشاريع مواطنة حقيقية تنتج وتعمل وتعيش حياتها بكامل إنسانيتها. أراقب أبناء هؤلاء، شبابا وشابات في بواكير العمر، وقد اقتلعتهم الظروف والأزمات من مقاعد دراستهم في أوطانهم الأصلية، فانغرسوا على مقاعد دراسة غريبة وجديدة ومختلفة بلغة وثقافة مغايرة لكنهم أبدعوا ولا زالوا يبدعون، كثير منهم قدم قبل سنوات قليلة واليوم أتابعهم وقد تأهلوا بجدارة لدخول الجامعات بدرجات تفوق علمي تثير الإعجاب. ما دام لدينا كل تلك الكفاءات، وكل تلك الخامات من العقول والأرواح المتوثبة للمعرفة والإنسانية، فلماذا أوطاننا التي قدمنا منها لا تزال تعيش عجزها وقصورها؟ الخلل ببساطة يكمن في الحواضن، والتي يسود فيها الجهل الديني والتراثي الذي يؤسس للاستبداد ويشاركه الحكم والمنافع. ليس مطلوبا منا هنا أي نشيد للعلم، ولا تحية صور القائد الفذ والملهم، ولا حتى أن نتغنى بتراب الوطن! تلك كلها مواد مخدرة تعمل على تغييب الوعي. لا أحد بالمطلق قادر أن يجلب الكرامة للإنسان العربي إلا هذا الإنسان نفسه، والكرامة كمفهوم يولد مع الإنسان كصفة أصيلة لا يمكن جلبها أو سحبها أو استيرادها كما تصديرها، ولا هي صفة تبجيل يستحقها أي شخص، بل هي حالة يعيشها الفرد نفسه ويتم تفعيلها فقط في حواضن سياسية واجتماعية تؤمن بها كفكرة أصيلة تولد مع الإنسان نفسه. وأول ما يقتل الكرامة هو الإقصاء.. أي إقصاء لأي آخر من طرف أي آخر. وربما لخص المؤرخ الدكتور خيري جانبك المقيم في باريس المسألة كلها بقوله: “لفقدانه إنسانيته في وطنه، يتغنى العربي بالحجر والتراب. كيف لا ولقد أصبح كل شيء في حياته مستباحا أمام دولته؟ أما نحن عرب المهاجر، فلا تراب لدينا ولا حجر نغني له، ولكننا نتغنى بإنسانيتنا التي استعدناها”. المقال السابق للكاتب الوعي القادم والمبتور دومااضافة اعلان