الراسخون في العلم: جدلية الأرض والسماء (1)

يطيبُ للمسلم مستخدماً، ابتداءً، "عقليته الوثوقية" (سأفكّ لاحقا منظومة العقليات الواردة في هذه الورقة)، أن يتغنّى بانتهاء عصر الوساطات الروحية بين الله والإنسان؛ فهي -في مرحلة ما بعد الإسلام- علاقة مباشرة بصفتها انفتاحاً كبيراً بين عالمي الأرض والسماء، وفتحاً أكبر في تاريخ الأديان التي اتخذت -في وقت سابق- من المُعزّمين والكُهان وسطاء بين هذين العالمين.اضافة اعلان
وفي تجلّيات "عقليته التلفيقية"، يعمد المسلم إلى استحضار الآية القرآنية "... وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ..." (آل عمران، الآية 7)، كجدارٍ عتيد يفصل بين الله والإنسان في العموم! فالمسلم الحقّ، الملتزم، المُحافظ على دينه من أيّ سوء فهم، هو الذي يستقي تعاليمه الدينية والدنيوية من رجال الدين ولابسي العمائم وأساتذة كليات الشريعة وآيات الله والأئمة وشيوخ المساجد، في استنساخٍ حديث لـ"طقسٍ لاهوتي قديم"، كان العبور، بموجبه، من الأرض إلى السماء يتطلّب تعزيماً من قبل أناس بعينهم، بصفتهم الأقرب إلى الإله، لما تنطوي عليه دخائلهم من قداسة وطهارة يفتقد إليها الغالب الأعم من الناس!
فعندما يجنح المسلم -تحت وطأة إفحام الخصم والتحايل عليه من داخل الحقل المعرفي القرآني، والانتصار عليه دنيوياً بدعمٍ ديني علوي- إلى استحضار هذه الآية القرآنية دونما توضيح واستجلاء لمفهوم الرسوخ في العلم، وعدم إخراجه عن سياقاته الإيمانية التي لا علاقة لها بإحكام السيطرة على عقول الناس والاستئثار من دونهم برضى العلي القدير، فإنه يعود بالإنسان إلى زمن الكهانات والتمائم والتعازيم، وحلقات الوصل بين الأرض والسماء؛ في تناقض صارخ مع مقتضيات عقليته الوثوقية التي تُنادي بزمنٍ ديني جديد، لا فاصل روحيا ولا فواصل بشرية فيه بين الله والإنسان.
وفي انفتاحات عقليتيه "الوثوقية" و"التلفيقية" على الاجتماع الإنساني، تنغلق عقليته اللاهوتية، فتتأبَّد في "عقلية إلغائية استئصالية"، تضعُ حدوداً صارمة -تحت تهديد الاستبعاد الاجتماعي والاغتراب النفسي كمرحلةٍ أولى، ومن ثمّ الإطاحة بالرِقاب وحزّ الأعناق كمرحلة ثانية- لأي مقاربات جديدة للعلاقة بين الله والإنسان. فالتمثّلات الأخيرة للدين والدنيا هي من نصيب "الراسخون في العلم" حصراً؛ وما عداهم دونهم في القُرب والقُربى إلى العلي القدير! فعبر هذه التراتبية، أعاد المسلم إنتاج العلاقة بالله إنتاجاً انغلاقياً لا إبداعاً انفتاحياً على إمكان روحي هائل، يمكن أن يتوسّط العلاقة المباشرة بين (أعلى) و (أسفل)، بما يرتقي بالمادة الإنسانية إلى مصافّ علوية قادرة على زحزحة أساسات هذا العالَم، والتحكّم بنواميسه استبصاراً للنور الإلهي بين جنبي الكائن الفاني، القادر على كل شيء في الزمن والمكان، عبر مكابدات "معرفية/ جمالية/ أخلاقية" لا نهائية.
سعياً وراء فهم أعمق وتعميم أشمل، فإني سأقسّم موضوعتي "الراسخون في العلم: جدلية الأرض والسماء" إلى حلقات، لكي يتسنى لي تفكيك المنظومة برمّتها. والبداية ستكون عبارة عن مُفتتح بسؤال حول طبيعة العلاقة بين السماء والأرض؛ الامتداد العمودي والأفقي الذي حدث لحظة تموضع الكلام الإلهي في النص القرآني، عبر وسيط بشري متمثّل بشخص النبي صلى الله عليه وسلم.
ثمة لحظتان حاسمتان في التاريخ الإسلامي:
1- لحظة "اقرأ"، بصفتها فاتحةً للكلام الإلهي إذ يتموضع في الأرض على هيئة نصّ لغوي قرآني، سينزل مُنجمّاً على شخص النبي -صلى الله عليه وسلم- تحديداً من دون الناس. فهو، إذن، حلقة "وصل" بين الله والإنسان؛ وبذلك فهو وسيط روحي بينهما، وناقل لعالَم السماء إلى الأرض. ولمدة 23 عاماً، سيستمر الدفق الإلهي في الاندياح على الذات النبوية، وفي كل مرة سيستشعر -كما نقلت الروايات- غبطة تفوق ما يعتاد عليه الإنسان العادي، ناقلاً بذلك التجربة الوصالية والاتصالية مع كلام العلي القدير من إطار "العادي" إلى إطار "الاستثنائي". فشخص النبي هو بؤرة ارتكاز عميق ومنطقة جذب مغناطيسي هائل على المستوى اللاهوتي، فالناسوت النبوي متصل -لحظة التدفق- بـ"أعلى"، ومنفصل في الوقت ذاته عن "أسفل".
2- لحظة "وفاة" النبي، بصفتها خاتمةً لمواضعات الكلام الإلهي في الحيز البشري، وانتهاء التدفّق العمودي من السماء إلى الأرض. فحلقة الوصل بين الله والإنسان انفكّت عراها بموت النبي، لذا حال المجال بين الله والإنسان مجالاً مباشراً، لا يخضع لأي اعتبارات توسّطية من أي إنسان كائناً من يكون.
مرحلة ما بعد اللحظتين، حدث تطوّر كبير في العالَم الإسلامي، فيما يتعلق بالعلاقة بين الله والإنسان. فقد تقهقرت اللحظة الثانية أمام لحظة ثالثة جديدة، أعادت استنساخ اللحظة الأولى، لكن دونما وجود لشخص النبي. باختصار، لقد تحوّل العالَم الإسلامي إلى مفرزة كبيرة، عملت على إنتاج أفراد وجماعات استأثرت بأحقية الوصل والوصال مع العلي القدير، بصفتهم الأقرب والأقدس إليه من دون الآخرين؛ كيف لا وهم "الراسخون في العلم"، وغيرهم غارقون في جهل دائم!
تلك اللحظة الفارقة والخطيرة، والتي نتج عنها عقليات "وثوقية/ تلفيقية/ إلغائية"، هي ما سأعمل على تفصيله في الجزء المقبل.