تركيا الجديدة.. أم سلطنة أردوغان؟!




اسطنبول - رجب طيب أردوغان؛ أول رئيس تركي منتخب من ثنايا حزب ذي جذور إسلامية، يسابق الزمن لبلورة تركيا الجديدة من منظوره، في مجتمع مستقطب، ومعارضة تخشى إصابته بـ"جنون العظمة". وهو يدفع على نحو مقلق صوب حكم رئاسي شمولي.اضافة اعلان
على السطح، تبدو تركيا، بطبقتها الوسطى المتنامية ومؤشراتها الاقتصادية الإيجابية ومشاريعها العملاقة، أنموذجا اقتصاديا ناصع البياض لتقدم الغرب في منطقة عانت من عقم السياسات الاقتصادية، بينما تلوث الحروب والصراعات الطائفية سماء الشرق الأوسط القاتمة منذ انتكاسة "الصحوة العربية". لكن واقع تركيا السياسي يتعرض لضغوط متسارعة، ويشي بدخوله نفق حكم الرجل الواحد، السائد في غالبية دول المنطقة، من خلال حزب العدالة والتنمية الذي مثلّه أردوغان على رأس الحكومة لمدة 11 عاما، قبل أن ينتخب رئيسا بنسبة 51 % من أصوات الشعب.
من مقره الرئاسي الجديد في أنقرة، المشيد على أنقاض غابات محمية؛ في مخالفة للقوانين، يتحكم أردوغان الآن بمفاصل الدولة، ويعظّم صلاحيات منصب كان تشريفيا حتى الآن. وبات مسعاه لتغيير النظام البرلماني إلى رئاسي، قضية انتخابية محورية؛ في محاكاة لدعوات خافتة أطلقها أسلافه، مثل سليمان ديميريل وتورغت أوزال.
في الأثناء، تبرز تساؤلات مشروعة عن إمكانية نجاح أردوغان، بعد انتخابات حزيران (يونيو) المقبل، في محو إرث مصطفى كمال أتاتورك؛ مؤسس الدولة الحديثة، وإحالة تركيا إلى نسخة جديدة من سلطنة عظيمة: تركيا 2023 وما بعد.
تثور هذه التساؤلات في أوساط دبلوماسيين وساسة، وأحزاب معارضة تتراجع مكانتها وقدرتها على التأثير منذ صعود حزب أردوغان العام 2003، وأقلية من رجال إعلام ما تزال تقاوم مسلسل تكميم الأفواه المتسارع.
أشرع السفينة تبحر باتجاه أردوغان
أردوغان منهمك، منذ عقد، في إعادة هندسة وجه تركيا؛ سياسا واقتصاديا واجتماعيا، بما يجعل من الأردوغانية إرثا يصعب على الأجيال المقبلة محوه. وكذلك الرهان على قدرتهم على بناء مستقبل يكون نتاج مصالحة بين العلمانية وفكر إسلامي مسيس، أخذ بالانتشار مع إطلاق عملية سلام تخطب ود الأكراد، ومن خلال نسج تحالف بين حزب العدالة والتنمية والرأسمالية الممثلة بطبقة رجال أعمال نمت خلال رئاسة أردوغان للحكومة. وهو يتكئ على ماكينة إعلام رسمي فاعلة، ووسائل إعلام غالبيتها مملوكة لحلفائه، بمن فيهم رجال أعمال في مجتمع يحصد بعدالة أكبر ثمار مكتسبات التنمية التي أطلقها أردوغان قبل عقد، مدعومة بثورة في الرعاية الصحية والتعليم.
كل ذلك ساهم في نمو طبقة وسطى باتت تشكّل 40 % من المجتمع. لكن الأصوات المعارضة تخفت أمام تقييد حرية الرأي والتعبير وحق التجمع، والخوف من تأسيس قوة استبدادية جديدة.
من مبررات تغيير موازين الحكم، تجاوز عراقيل البيروقراطية التركية التي يتطلبها النظام البرلماني لإقرار القوانين، ما يعطل أي خطط تنموية طموحة لتطوير البلاد، بحسب الحزب الحاكم. إذ يربط اسم أردوغان بحركة نمو سريعة، تفصح عن طموحه الشخصي والحزبي في وضع بصمة للمستقبل الواعد.
نزعة "تمجيد الذات" و"أوهام العظمة" التاريخية العثمانية التي يعبر عنها رأس الدولة، تطل برأسها يوما بعد يوم، منذ استقر في قصره الفاره الذي كلّف الخزينة 600 مليون دولار. وعين رتل مستشارين يتابعون ملفات الحكومة المهمشة، وناطقا رسميا باسم الرئاسة. فهناك عدة مشاريع عملاقة ستسمى باسمه؛ مثل مطار اسطنبول الجديد الذي سيخدم 150 مليون مسافر سنويا، وستاد وسد أردوغان.
في الأثناء، يتفاعل جدال محموم حول النشاط الانتخابي المتزايد لأردوغان، رغم انتقادات وجّهها له أعضاء في حكومة أحمد داود أوغلو؛ إذ يفرض الدستور على الرئيس أن يكون فوق الأحزاب ومناكفاتها، لأنه رمز للأمّة! لكن أردوغان يطوف المدن والقرى داعيا، في كل مناسبة، إلى مساندة حزبه في الانتخابات البرلمانية، ضمن مسعاه للسيطرة على 400 من أصل مقاعد البرلمان الـ550.
الأرضية السياسية والاقتصادية والقضائية تجهّز لتحقيق هدف أردوغان بالسيطرة على مفاصل الدولة بأكملها، وبعدها إقرار نظام رئاسي يتربع على سدّته "السلطان" السابع والثلاثون، مدعوما بغالبية محافظة تقف في وجه القوى الليبرالية والعلمانية.
طموح أردوغان الشخصي لا حدود له، بحسب مقربين. وجود سياسي قوي وطموح، يعني تغييرا جذريا قادما لا محالة في منصب الرئيس ومهامه، بخاصة بعد أن نجح في المواجهة العاصفة أواخر العام 2013 مع جماعة فتح الله غولن، وطي ملف تسريبات تسجيلات الفساد التي طالت ابنه بلال، مع كبار المسؤولين في حزبه. ونجح في الارتداد من مدافع إلى مهاجم، بعد اكتساح حزب العدالة والتنمية الانتخابات البلدية، وفوزه شخصيا بمنصب رئيس الجمهورية. فمذذاك، تناسلت الملاحقات القانونية والاعتقالات بحق رجال شرطة يشتبه بأنهم سربوا تلك التسجيلات. وزادت المواجهة من إصراره على إحالة البلاد إلى نظام رئاسي، يتربع حزب العدالة والتنمية على قمته بزعامته.
أحزاب المعارضة ترى أن أردوغان يؤسس لإقامة دولة بوليسية. "العدالة والتنمية" يسيطر على البرلمان الحالي، ويقر غالبية المشاريع من دون أدنى مقاومة. وسياسيا، يستمر التضييق على الحريات العامة والفضاء الإلكتروني ("تويتر"، و"فيسبوك" و"إنستغرام"). لكنّ أردوغان ومؤيديه لا يعيرون المعارضة أي اهتمام، ويتهمونها بمحاولة خلق نظام مواز داخل الدولة، واعتماد أساليب ملتوية لضرب نفوذ الحزب الحاكم.
وترى المعارضة أن قانون الأمن الداخلي الذي أقره البرلمان قبل أسابيع، هو مؤشر آخر على الشكل الذي ستكون عليه تركيا في حال عزز أردوغان من قبضته في ظل النظام المنشود. يعطي القانون الجديد، والمكون من 69 مادة، صلاحيات أوسع للشرطة؛ منها السماح باستخدام السلاح ضد من يستهدف المدارس ودوائر الدولة والمعابد الدينية بالقنابل الحارقة والمتفجرة وحتى السلاح الأبيض. كما يعاقب بالسجن لمدة خمس سنوات كل من يغطي وجهه جزئيا أو كليا خلال المسيرات، بهدف تحويل مسارها إلى مظاهرات مؤيدة لمنظمات إرهابية. ويطلق القانون أيضا أيدي الشرطة في تفتيش الأشخاص والمنازل والسيارات، والتنصت على الاتصالات من دون أمر قضائي.
بالطبع، تقول الحكومة إن القانون يأتي حسب المقاييس الأوروبية والأميركية؛ وكرد على اضطرابات شهدتها مناطق تقطنها غالبية كردية جنوب شرق البلاد في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وأدت إلى مقتل 40 شخصا، بعد اتهام تركيا بعدم مساعدة المقاتلين الأكراد في محاربة تنظيم "داعش" داخل سورية. لكنّ حقوقيين يحذرون من إساءة استخدام حزمة إصلاحات الأمن الداخلي، وسط تنامي الاتجاه السلطوي قبيل الانتخابات.
مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وجه انتقادا قاسيا لسجل تركيا في الحريات العامة. كذلك فعلت منظمة "مراسلون بلا حدود"، التي وضعت تركيا في المرتبة 149 من بين 180 دولة، على سلم احترام الحريات الإعلامية، وسط صعود مؤشرات الفساد. فمنذ تسلم الرئاسة، حوكم 70 شخصا بتهمة إهانة أردوغان، منهم طالب مدرسة ورئيس تحرير صحيفة وملكة جمال تركيا السابقة. وأقيل العشرات من التلفزيون الرسمي، ولوحق رجال أعمال وصحفيون، بينما أسندت تهم بالإهانة والتحريض إلى 58 شخصا لأنهم انتقدوا أداء وكالة الأنباء الرسمية (الأناضول) في تغطيتها لمظاهرات حديقة غزي قبل أشهر.
الرئيس يتصل برؤساء التحرير شخصيا ويطلب منهم رفع أخبار لا تعجبه، ويقال له "حاضر سيدي"؛ كما حصل مع رئيس المؤسسة الإعلامية "هابرترك". ويوميا يطرد صحفيون من قبل رؤسائهم المرعوبين، فقط لأنهم انتقدوا سياسة الحكومة، أو تحدثوا في شؤون لا تعجب أردوغان. ويرصد تقرير صادر عن منظمة "فريدوم هاوس" إقالة أو مناقلة 45 ألف رجل شرطة، و2500 قاض ومدع عام منذ 2013.
وفي العامين الماضيين، عبّرت منظمات حقوق إنسان عالمية، والاتحاد الأوروبي والكونغرس الأميركي، عن مخاوفها من القيود التي تفرض على حرية الرأي والتعبير. لكن الحكومة التركية تنفي هذه الاتهامات، وتتهم جماعات مؤثرة وأعداء بمحاولة الإطاحة بها. وتقول إن حزمة الإصلاحات الأخيرة طالت منظومة حقوق الإنسان، وقصرت مدد التوقيف قبل المحاكمة، ما سمح بإطلاق سراح العديد من الصحفيين. كما أن المحكمة الدستورية وقفت ضد محاولة حظر "تويتر" و"يوتيوب"، وقلصت تغيرات كانت ستطال مجلس القضاة والمدعين العامين.
داخليا، يسعى أردوغان إلى تسوية المشكلات القومية، وأهمها القضية الكردية التي تغذّيها نزعة قومية متشددة طبعت السياسة التركية والمؤسسة العسكرية منذ قيام تركيا الحديثة العام 1923. المحاولات حثيثة لتجهيز الأرضية لعملية سلام مع الأكراد قبيل الانتخابات، على أمل كسب أصوات ناخبين أكراد. ووجّهت دعوة للزعيم الكردي المسجون عبدالله أوجلان بإلقاء السلاح. لكن علاقة أردوغان بصلاح الدين دميرطاش؛ الرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطي (ذي الميول الكردية)، ما تزال متشنجة، وقد توعد هذا الأخير الرئيس بأنه لن ينعم برؤية النظام الرئاسي ما دام الأكراد موجودين في تركيا.
مفاعيل أردوغان تتشابه مع الدوامات في منطقتنا بعد الردّة على "الصحوة العربية". حيث تبرز ثنائية العصا والجزرة، واللعب على غرائز الهلع لدى الشعوب في دول التحول، مثل سورية والعراق واليمن وليبيا، وتتعمق المزاوجة بين اقتصاد سوق حر ودكتاتورية سياسية. فأولوية المواطن الآن استتباب الأمن والنمو الاقتصادي، فيما الديمقراطية ترف. وأحزاب المعارضة عاجزة، والمجتمع المدني مهمش، والشعب محشور بين مطرقة أحزاب الدولة وسندان "الإخوان"، واليوم تنظيم "داعش" وأخواته، بينما يتكرس الحكم بيد الفرد وفي جيبه السلطات الثلاث والإعلام.
تركيا لم تعد النموذج الساطع لملايين العرب، ممن حلموا يوما بالعدالة والتنمية والكرامة، حين انطلقت شرارة التغيير من تونس مطلع العام 2011، قبل أن تذوي لظروف داخلية وخارجية. لكنها بالتأكيد أنموذج اقتصادي واجتماعي رائد، قائم على توفير المأكل والمسكن وخدمات الصحة والتعليم، بنوعية توفر حياة كريمة للمواطن، مع التغطية على عيوب تراجع الحريات وتنامي الفساد. بينما يعكف رئيس جاء عبر صناديق الاقتراع، وليس على ظهر دبابة، على تكييف النظام السياسي لمصلحته، وتثبيت سلطة الحزب الحاكم لعقود مقبلة!